في شهر يناير من عام ٢٠١٤، كتب وليد الخضيري مقالة بعنوان القوميّة والدين… قراءة نقدية في المفهوم الغربي للقوميّة. سأقوم في الأسطر القادمة بمناقشة ما تفضل به الخضيري.
ملخص كلام الخضيري
تبدأ مشكلة الخضيري مع مقولة “العرب جماعة سياسية فقط”. إذ يعتبر أن في كلمة “فقط” حصر للعروبة في المجال السياسي، وهو حصر ينظر إليه باعتباره “فصلا” لها عن “الثقافة والقيم والأخلاق”. وإرادة الفصل هذه تستند إلى التقاليد العلمانية التي تنتهي لأن تكون “إرادة حصر الإنسان على الجانب المادي فقط، وإلغاء الجانب الروحي من عالمه”… فالعلمانية، إذن، “تعاكس حقيقة وواقع الإنسان الذي يعيش في عوالم متعددة…”.
والسر وراء وجود كلمة “فقط” هذه عند “القوميين العرب”، هو أن الفكرة القوميّة الغربيّة نفسها “تحمل مضمونا علمانيا”. ولأن القوميين العرب هم عبارة عن مقلّدة ومردّدة لمسلمات الحداثة الغربية، فقد قلدوهم في اعتبارهم الدين “أحد مكونات الهوية الثقافية العربية”، وأن علاقة الإسلام بالعروبة هو “علاقة جزء بكل وعلاقة تابع لمتبوع وفرع بأصل، وبالطبع فالمقصود أن الأصل هنا هو العروبة، ثم الإسلام جزءا منها، وليس العكس”. وهذا التعامل مع الدين باعتباره جزءا من الهوية قد يتماشى مع الهويات القومية الغربية التي انفصلت عن الجماعة الدينية الأم انفصالا لغويا وطائفيا، فغدت الطائفة مكونا رئيسا لها. إلا أن لغة العرب ما زالت هي لغة الإسلام، ودين العرب ما زال هو دين الاسلام، ومن هنا العلاقة الوطيدة بين الإسلام والعربية التي دفعت “مفكرين غربيين” إلى القول بأن “الإسلام هو قوميّة العرب”.
ولتجاوز مشكلة “الفصل” العلمانية المتضمنة في كلمة “فقط”- والتي قاد لها تقليد القوميين للغرب- يؤكد الخضيري على أنه لا ينبغي الفصل بين “الإسلام والعروبة… ولا يمكن فصلهما لما بين الإسلام والعروبة من تداخل كبير”. فلا ينبغي الفصل للأسباب التالية: ١- أن الفصل تقليد علماني محمّل بالنظرة المشروحة سابقا. ٢- أن واقع العرب أنهم مسلمون في غالبيتهم. ٣- أن اللغة العربية هي اللغة الدينية المقدسة الإسلامية. ٤- وأن غالبية العرب- بما في ذلك المنتمون للمسيحية منهم- ينتمون للثقافة الإسلامية.
كما أن تجاوز “الفصل” المتضمن في كلمة “فقط” في عبارة “العرب جماعة سياسية فقط”، يفتح المجال لتعبئة الجماعة العربيّة بالمضمون القيمي، أي أنه يصبح بالإمكان الإجابة على سؤال “ما هي المرجعية القيمية للعرب؟” حيث لن تكون الإجابة إلا “الإسلام” الذي يحيل الرابطة العربيّة من رابطة أنانية إلى رابطة “أحب لأخيك ما تحب لنفسك” حيث تشمل الأخوة جميع المسلمين، بله البشرية جمعاء. كما أن تضمين الجماعة العربية بالحمولة القيمية الإسلامية، يتيح لها المجال التخلص من العصبية ونصرة الأخ ظالما كان أو مظلوما.
في معنى كلمة “فقط”
غالب ما طرحه الخضيري ينطلق من مغالطة أساسية في فهمه لمعنى “فقط” في عبارة “العرب جماعة سياسة فقط”. ذلك أنه قام بنزع هذه العبارة عن السياق الذي ترد فيه عادة، ليقوم بتحميلها أحمالا لا تحتملها. فالسياق الذي ترد فيه هذه العبارة هو ضد التهمة السائدة بأن القومية تنادي بسحق الهويات الأخرى. أي أن كون شخص ما عربيّ هذا لا ينفي أنه ذكر ومسلم وسني ومعلم ومن مدينة دمشق وفقير…إلخ، فهي هويّة “سياسية فقط” وليست هويّة شمولية تكتسح المجالات وتطالب بالتعامل مع العروبة ليس فقط كانتماء سياسي، بل كانتماء اخلاقي، وديني، وجنوسي….إلخ المجالات. فقط في هذا السياق تذكر كلمة “فقط”. إذ أنه وجدت حركات تحاول صناعة “الشخصية العربية”، وتعزيز “الثقافة العربية”، وبناء “اقتصاد عربي” وتمتين “أخلاق عربية”… وضد هذه النزعة الشمولية يتم التأكيد على أن العروبة هي هويّة سياسية، لا تطرح كبديل وكقمع أومصادرة للهويات الأخرى في مجالاتها الأخرى.
يمكن اعتبار هذا الرد كافيا على كل الكلام الذي ذكره الخضيري، إلا أن هناك ثلاث مسائل أريد التعليق عليها في كلامه:
الأولى، أن كل ما تنتهي إليه مقالة الخضيري هو المطالبة باستبدال فهم القوميّة الغربي في الخطاب القومي العربي بفهم آخر للقومية، يكون فيه “التحيز إلى مدلول هو ألصق بنا من مفاهيم مستوردة”.
أي أنه لا يعترض على وجود أمة من العرب، ولا على سيادتها، ولا على وجود روابط فيما بينها عابرة للدولة. كل ما يعترض عليه هو نوع من التصور يرى أنه “علمانيّ”، ويطالب باستبداله بآخر إسلامي. أي أنه قوميّ عربيّ بنكهة إسلامية. أو بمعنى آخر، هو ينتمي للعرب كـ”جماعة سياسية مرجعيتها القيميّة هو الإسلام”.
فنقطة خلافه الأساسية ليست في العروبة، ولا القوميّة، بل في اعتماد الإسلام مرجعيّة أخلاقية وحيدة. وهذا الخلاف ليس خلافا خارج العروبة بل من داخلها، وبالتالي هو ليس حجة ضدها- كما يذكر هو بصريح العبارة- بل حجة لأحد تمثلاتها وأشكالها.
الثانية، وهي امتداد للأولى، أن المطالبة باعتماد “مرجعية أخلاقية واحدة” هو علمانيّة أيضا. وهذا الرأي ليس رأيي، بل هو رأي المرجع الفكري المفضل للخضيري، أي طه عبدالرحمن. ففي كتابه الأخير المعنون بـ”بؤس الدهرانية”، يذكر طه عبدالرحمن أن هناك أربع مسلمات باطلة يقوم عليها تصور العلمانيين للأخلاق، من بينها مسلمة “الإلتزام بأخلاق واحدة”. فهو يرفض “إنكار … التعدد الأخلاقي على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة”. ويقدم اعتراضه على هذه المسلمة من أربعة وجوه:
أولاها، أن الأخلاق مرتبطة بالزمان والمكان وليس بالأفعال، إذ أن كون هذه الظروف الزمانية والمكانية متغيرة تجعل من الجائز “أن يتخذ الفرد أو الجماعة من الأخلاق ما يناسب تغيرها، كأن يأخذ بالمنفعة في ظرف أو صرف معيّن، ثم يترك المنفعة ويأخذ بالإحسان في ظرف أو صرف غيره؛ ومع ذلك لا يعتبر هذا التحول في السلوك الأخلاقي تناقضا أو خللا، بل يعتبر… سلوكا حكيما”.
أما الوجه الثاني فهو أن الإنسان لا يكتمل تكوينه الأخلاقي دفعة واحدة، بل يمر عبر أطوار، وبالتالي يصبح التغير تبعا لتغير هذه الأطوار متصورا ومتوقعا.
أما الوجه الثالث،فهو أن التخلق الواحد عبارة عن مراتب، فالمواساة رتب والكرم رتب.
أما الوجه الآخر هو أن الإنسان قد يجمع بين الفعل الخلقي وضده. إذ أنه “لما كانت أفعال الفرد الواحد لا تنفك عن سياقاتها المختلفة، فإنه يأتي بها بحسب ما تنطوي عليه من مقتضيات متجددة، بحيث قد تصدر منه تصرّفات متضاربة تضارب هذه السياقات…”.
فإذا كان الخضيري يطالب بمرجعية قيمية واحدة لتفادي العلمانية ففي العلمانية وقع بحسب مرجعه الفكري طه عبدالرحمن.
إما إن كان لا يطالب بمرجعية واحدة، ويتقبل وجود تعددية في المراجع الاخلاقية لدى العرب، فيصبح كلامه لا معنى له، لأن لا أحد يعارضه في أن الإسلام أحد المراجع القيمية الكبرى للعرب والمسلمين في كل مكان.
أما المسألة الأخيرة فتتعلق بحديثه عن الأفكار المستوردة ومسألة الفصل المتضمنة في العلمانية التي تجعلها ضد واقع الإنسان. هل يطبق هذا الكلام على الأفكار الأخرى؟ الديمقراطية مثلا؟ فهي مفهوم غربي تطور جنبا إلى جنب مع كل من الدولة الحديثة والقومية والحداثة والعلمانية، ونشأ بشكل رئيسي نتيجة انتقال فكرة السيادة من حق الملك الإلهي إلى حق الشعوب في الحكم. وهذا الانتقال ما كان له أن يكون متصورا لولا أن حدث فصل بين المقدس الديني (إرادة الله) والمقدس العلماني (إرادة الشعب، أو “سيادة الأمة” كما يحب الليبرو-إسلاميين تسميتها)، ليتم بناء النظام السياسي على الأخيرة. غير كونها قائمة على فصل السياسة عن غيره من المجالات، فهي في ذاتها تقوم على عدد من الفصولات: كفصل السلطات، وفصل مجلسي البرلمان، وفصل الوزارات، وفصل درجات التقاضي…إلخ. فهل سيرفض الخضيري الديمقراطية؟
ليس الهدف هنا هو الإلزام بشيء، بقدر ما هو توضيح إلى أين يؤدي مثل هذا المنطق. إذ أن الخلط الذي وقع فيه الخضيري هو أنه لا يميز بين “الفصل” وبين “الإلغاء”. فمثلا يقول في مقالته: “يُرجع المفكرون الإسلاميون إرادة الفصل بين الدين والسياسة إلى كونها إرادة حصر الإنسان على الجانب المادي فقط، وإلغاء الجانب الروحي من عالمه”. فالفصل بين الجانب المادي والروحي يصبح عنده – متبعا من يسميهم “مفكرين إسلاميين”- “إلغاء للجانب الروحي”. وهذه قفزة شاسعة- ليست مستحيلة، أو خاطئة بالضرورة- لكن بحاجة إلى دليل مقنع لم يقدمه لنا الخضيري.
سلطان لوسمحت عندي سؤال
، وش الفرق بين التنويرين والليبرو-إسلاميين ؟ مع الأمثلة