في مقالة بعنوان ”من يقف خلف داعش؟ سؤال عقيم“ أرجع عزمي بشارة العنف المفرط الذي يستخدمه مقاتلوا الدولة الإسلامية إلى جذور نفسية قائلا: ”وتصويرياً، يمكننا، مثلاً، أن نتخيّل إنساناً مر بأهوال سجون حكم البعث العراقي أو السوري، ثمّ عاش في ظل الاحتلال الأميركي الهمجي وحاربه، ثم ذاق مرارة السجن في ظل نظامٍ طائفيٍّ سياسيٍّ بغيض،مثل نظام المالكي، بحيث أتت كل واحدة من هذه التجارب على مساحة خضراء في نفسه، وطمست لوناً من صورة الإنسان فيه“.
بعده بأيام، توسّع نوّاف القديمي في الإجابة، مرجعا هذا العنف إلى القهر الذي مارسته الأنظمة العربية ضد مواطنيها. فالقهر، كما يقول القديمي، ”يقتل الجينات الإنسانية في داخل المقهور، فتُصبح كل أفعاله، مهما توحشت، مُبررة ومشروعة و”أخلاقية““. هذا القهر يحوّل الناس إلى وحوش كما في حالة أبو عمر الكردي، ولا يجعل لهم ما يخسرونه.
نحن هنا أمام تفسير نفسي للعنف، تفسير يرى في هذا العنف سلوكا شاذا، سلوكا غير بشري (أو وحشي)، غير طبيعي وغير عقلاني… باختصار: نظرة ترى في أن الأصل في الإنسان الطيبة والخيرية، وأن مثل هذا العنف ليس إلا شيئا أقرب للاختلال النفسي الذي لا ينتج إلا من ظروف قاسية وقاهرة كالاحتلال والقمع السياسي والطائفي التي تنزع عنهم إنسانيتهم.
هذا التفسير غير صحيح، ذلك أن استهداف المدنيين في الحروب هو، أولا، خيار عقلاني، وثانيا، تقوم به الدول الديمقراطية واللبرالية، وثالثا، لا يحتاج لأن يمر الشخص إلى تجارب سياسية قاسية حتى يقوم به، بل يمكن للكثير من الناس أن يقومون به بسهولة. قبل أن نفصّل في هذه النقاط، لابد أولا أن نتحدث قليلا عن العنف، لأن هذا المفهوم بات ضبابيا في هذه الأزمنة التي أصبح الخطاب السياسي- الخطاب، لا الممارسة السياسية- مشبعا بالأخلاق المنبثقة من عالم القيم اللبرالية التي جعلت من الألم والضرر على الأفراد ألدّ أعداءها.
فالعنف بطبيعته وسيلة، ومثله مثل كل وسيلة يستخدم لغاية، وهذه الغاية هي التي تبرره. فمن يقتل آخرا دفاعا عن نفسه ليس مثل- أخلاقيا بل حتى قانونيا- من يقتله معتديا حتى لو كانت طريقة القتل واحدة، فالاختلاف هنا ليس في الأداة، أو في الوسيلة، أو في العنف نفسه، بل فيمَ استخدم ولأي غاية. والحرب، هذه الظاهرة القديمة قدم الإنسان نفسه، لجوء للعنف لتحقيق نصر سياسي أو لتحقيق السلام. فمن يقاتل ”الإرهاب“، مثلا، يخوض حربا يزعم أن الهدف منها تحقيق السلام وانهاء العنف. الكثير من هذا الكلام يتفق فيه الناس، لكن اختلافهم يبدأ من استهداف المدنيين، باعتبارهم مسالمين، أو أبرياء، وغير مقاتلين، فكيف يمكن فهم هذه الأفعال ضمن سياق مثل سياق الحرب؟
في كتابه ”استهداف المدنيين في الحرب“، يقدم أليكساندر داونز منطقين يقودان أحد الأطراف المقاتلة- سواء كانت لبرالية، إسلامية، شيوعية، أو فاشية- إلى استهداف المدنيين. يقوم المنطق الأول على تخفيف تكاليف القتال قدر الإمكان. والتكاليف هنا لا تنحصر على العتاد والمال، بل بشكل مهم ورئيسي على الرجال المقاتلين. فكيف يمكن خوض حرب يمكن فيها الحفاظ على أرواح الجنود المقاتلين قدر الإمكان؟ هذه الحسبة العقلانية هي التي تحدد أن استهداف سوق مأهول بالمدنيين بانتحاري واحد أقل تكلفة بكثير من شن عملية مكونة من مئات الجنود ضد منشأة عسكرية محصنة بقوة ومدججة بالسلاح.
أفضل مثال يوضح هذا المنطق، هو إلقاء الولايات المتحدة الأميركية- الديمقراطية اللبرالية- لقنبلتين نوويتين على اليابان إبّان الحرب العالمية الثانية. فعوضا عن تكبّد الكثير من الخسائر في أرواح المقاتلين الأميركيين، يمكن تحقيق الهدف- الذي هو إجبار اليابان على الاستسلام دون قيد وشرط وبشكل سريع قبل وصول الاتحاد السوفييتي إليها- عبر استهداف المدنيين، وقتل ما يقارب الـ١٥٠ ألف مدني ياباني.
أما المنطق الثاني الذي يجعل استهداف المدنيين في الحرب خيارا عقلانيا، فهو منطق تفادي الهزيمة. فإذا أحس أحد الأطراف بأن المعركة تسير لغير صالحه، فإنه لن يتوانى عن استهداف المدنيين إذا رأى أن هذا الخيار سيغيّر من معادلة المعركة. يمكن فهم قتل الصحفي فولي ضمن هذا السياق العقلاني، فالرجل معتقل من عام ٢٠١٢م، ولم يتم قتله إلا عندما بدأت الولايات المتحدة ضرباتها ضد داعش، حينها، عندما بدأت تشعر داعش بالخطر، لم تتوانى من ارتكاب جريمة قتل ضد هذا المدني.
المثال التاريخي الأشهر لهذا المنطق هو من الحرب العالمية الثانية أيضا، فعندما استولت المانيا النازية على كافة أرجاء أوروبا، لم تجد بريطانيا- الديمقراطية اللبرالية- ردا سوى ما اصطلح عليه بـ”القصف الاستراتيجي“. وهذا المصطلح لا يعني سوى استخدام الطائرات لقصف المدن الألمانية المأهولة بالمدنيين، وهو الأمر الذي قاد لقتل- وبمشاركة أميركية- حوالي ٣٠٠ ألف مدني ألماني.
في الحالات التي تقوم فيها ميليشيا ضعيفة بقتال حكومة أقوى منها، فإن هذين المنطقين يمثلان ”وصفة النصر“ في المعركة. في دراسة نشرتها المجلة البريطانية للعلوم السياسية رصد فيها الباحثان قرابة مائة انتفاضة لميليشيات ضد حكوماتها وبحثا العلاقة بين استهداف المدنيين ونتيجة الصراع. جاءت النتائج مفاجئة، فكلما لجأت الميليشيا لاستهداف المدنيين كلما ازدادت احتمالية تحقيقها لتسوية مرضية لها مع الحكومة، أو تحقيق الإنتصار. والتفسير الذي أوردوه لهذه العلاقة هو أن القدرة التفاوضية لهذه الميليشيات تزداد مع استهداف المدنيين ذلك أن تكلفة كل مدني يقتل توجه ضد الحكومة التي تصور على أنها ضعيفة أو فشلت في مهمتها الأساسية: حماية الناس.
أخيرا، لا يحتاج المرء لأن يكون مقهورا، أو مرّ بتجارب سيئة، حتى يقتل المدنيين. بل باعتقادي أن القهر والتجارب السياسية السيئة، لا تدفع الإنسان للعنف بل تنزع عنه الشعور بالأنفة والعزة والغضب وتصيبه بتبلد الإحساس والذل والمهانة. فقديما لاحظ ابن خلدون أن ”من كان مرباه بالعسف والقهر“، فإن هذا القهر قذ سطى عليه ”وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث…خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره في ذلك…“.
نفس هذا المعنى تحدثت عنه حنة أرندت بعد أكثر من قرن عندما تكلمت عن الأثر الذي تركته معسكرات الاعتقال في نفوس المعتقلين. فهي تقول ”ليس من الصعب القول أنه بالإمكان خلق ظروف تنزع إنسانية البشر، ظروف كتلك الموجودة في معسكرات الاعتقال، أو التعذيب، أو المجاعات، لكن هذا لا يعني أن هؤلاء البشر يصبحون كالحيوانات؛ فتحت هذه الظروف، ليس الغضب والعنف، بل غيابهما الفاضح هو أوضح علامات انعدام الإنسانية“.
فإن كان للقهر أو التجارب الشنيعة من أثر فهو في الغالب الأعلم ليس التحول إلى العنف، بل العكس. يمكن القول أن غالبية المقاتلين في داعش لم يمروا بمثل هذه التجارب القاسية، ومع ذلك نجدهم بسهولة يمارسون العنف اتجاه المدنيين. السبب هنا هو نفسه السبب الذي يجعل طائرا أميركيا يقصف حفل زفاف يمني وهو نفسه الذي يجعل جنديا ألمانيا يقتاد اليهود إلى المحرقة وهو نفسه الذي يدفع الطائرات الإسرائيلية لقتل النساء والأطفال، إنه ببساطة الانخراط في جهاز بيروقراطي حديث.
الأجهزة البيروقراطية الحديثة هرمية، لكل موظف مدير ولكل مدير مدير. وتقسيم الوظائف والمهام فيها عقلاني ومرشّد بشكل كبير. يصبح الموظف فيها كالترس في المحرك، يقوم بشيء صغير جدا لا يعرف ما علاقته بالناتج الكلي. الموظف الأميركي الذي يجلس خلف الحاسوب الذي يدير من خلاله الطائرة المسيّرة التي تقصف المدنيين لا يعرف من يقصف ولماذا يقصف، هو فقط يتبع الأوامر التي جاؤته من قياداته العليا. يقوم الجهاز البيروقراطي باضفاء نوع من الثقافة الخاصة للمؤسسة، ثقافة تحجب حقيقة أن ما تقوم بها هو قتل المدنيين. والجهاز البيروقراطي يتميز عن غيره من الأجهزة أنه لا يمكن اختصاره إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص لتحميله المسؤولية، بل هو عبارة عن سلاسل طويلة من المكاتب التي تتبادل تلقي وتنفيذ الأوامر.
عندما يدخل الإنسان إلى هذا الجهاز يعرف أن قيمته قائمة على إنجاز مهمته وتنفيذها بحسب الوقت المناسب وبشكل كفؤ، ما هذه المهمة؟ من رسمها؟ لماذا؟ هذه اسئلة تضر العامل وتحوله إلى مصدر ازعاج، والتخلي عنها تحوله إلى عامل بارع ومنجز. ولأوضح كيف يمكن لأي انسان داخل مثل هذه المؤسسات أن يمارس أعمال بشعة دون أن يفكّر فيها، سأضرب تجربة عشتها في عملي في شركة الكهرباء، فعندما يصبح الطلب على الكهرباء أكبر من القدرة على توفيره، يقوم الموظف باتخاذ قرارات عقلانية تقوم بفصل الكهرباء عن بعض المناطق حتى لا تنقطع الكهرباء عن كل المدينة. في أحد الأيام، جاء هذا الموظف أصفر الوجه، عندما سألته، قال أنه بالأمس قطع الكهرباء عن حيّ فيه قريب له حياته تعتمد على جهاز كهربائي، عندما قطع الكهرباء عنه ساءت حالة هذا القريب وذهب للمستشفى وكاد أن يموت. فداخل الشركة كان اسم مهمته ”نزع أحمال“، لكنه عندما خرج منها وجد أنها تعني تعريض حياة قريب له للموت.
كلنا يمكننا القيام بذلك، ولا نحتاج لأن نمر بتجارب سيئة أو قاسية حتى ننفذ الأوامر وننجز في أعمالنا، إن نجاح المؤسسة البيروقراطية يكمن في قدرتها على عزل الإنسان هذا عن الموضوع الذي يتعامل معه وتحويله- أي الإنسان- إلى محض ترس فيه. وحتى إن صحى ضميرنا مرة، فإن مغريات الراتب والوجاهة الاجتماعية وحاجة العيال تجعلنا نتمسك بتبرير ”نحن ننفذ الأوامر، أنا عبد مأمور“.
ابن تيمية تنبّه لهذا الأمر قديما، فعندما اقتاده أحد الجنود لسجنه قال له ”أنه عبد مأمور ولا ذنب له“، رد عليه ابن تيمية:”لولاك ما ظلموا“. وقبله سأل أحد السجانين أحمد بن حنبل ”هل أنا من أعوان الظالمين؟“ فأجابه:”بل أنت منهم“. وبعد ذلك بقرون كتبت حنة أرندت تقريرها ”آيخمان في القدس“ والذي فسرت فيه شخصية آيخمان- أحد النازيين الذين أشرفوا على تنفيد الهولوكوست ثم هرب لأميركا اللاتينية بعد الحرب ليختطفه الموساد ويجلبه لإسرائيل ليحاكم- عندما برر أعماله بأنه جندي ينفذ الأوامر. كان خلاصة تفسيرها أنه شخص عادي جدا، مثل أي واحد منا، وما دفعه للقيام بهذه الأعمال الشنيعة أنه لم يفكّر، وما تقصده بالتفكير هنا هو التدبّر أو محاسبة النفس على ما تقوم به، أي نفس العملية التي قام بها سنودن- موظف أحد مقاولي وكالة الأمن المركزية الأميركية- عندما قرر التخلي عن عمله- ذو الأجر الرفيع- وفضح عمليات التجسس التي تقوم بها الوكالة وتعريض نفسه وحياته للخطر.
والمقصود هنا أن اثباتنا أن ما تقوم به داعش عقلاني، لا يعني ثناء وتبريرا لها، فالعقلانية- كما رأينا- قد تنتج شيئا مروعا كالهولوكوست أو تهجير الفلسطينيين من بلدانهم. إن المقصود هو نفي التفسير الذي يرى في مقاتلين داعش استثنائيين في تجربتهم القاسية التي حولتهم لاستثنائيين في عنفهم، وفهمهم بشكل أكثر صحة ودقة حتى نستطيع التعامل مع هذه الظاهرة بشكل أفضل.
هذا النموذج التفسيري الرهيب صوره وأحسن تصويره الروائي محمد كامل حسين بروايته قرية ظالمة ص 34 – 45
والرواية بأكملها ذم لضمير الجماعات وكيف أن الجموع الحاشدة المتمثلة ببني اسرائيل قدرت تبرر لنفسها استحلال صلب المسيح