نشهد في أيامنا هذه احتدام حاد في الصراع السياسي، أدى إلى تعطيل الحركة الإصلاحية وكبح جماحها وعرقلتها من خلال معارضة الحكومة للإصلاح من جهة والمطالبات الشعبية المتزايدة، وقد بدأ الصراع مبكراً في التصويت حول رئاسة المجلس، فاتخذت الحكومة مرزوق الغانم مرشحاً لها معارضةً بذلك المطالب الشعبية الواسعة والتي مثلها أكثر من ٤٠ نائباً في اجتماع خاص عقد قبل الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمة، وبعد أن انحازت السلطة لمشروع العهد القديم متراجعةً بذلك عن الوعود التي عبر عنها رئيس الحكومة في خطابه الأول أمام مجلس الأمة، لم تقف الحكومة عند ذلك الحد بل تقدمت بخطوات اعتبرتها الأغلبية البرلمانية تجاوزاً صارخاً على مطالب الشعب وآماله، فقد تدخلت الحكومة بثقلها الكبير في اللجان البرلمانية والسيطرة عليها ثم تعليق الجلسات لمدة شهر كامل، تطورت الأحداث بشكلٍ متسارع وحاد مما أدى الى إنغلاق في الأفق السياسي بعد أن شطب الداهوم وأقسمت الحكومة بعد تشكيلها، فيما تقف الأغلبية البرلمانية عاجزة عن إيجاد حلول وآليات جديدة للصراع داخل قبة عبدالله السالم وذلك لضعف الإمكانات البرلمانية في كبح جماح السلطة ومساعيها لتقوض الحركة الإصلاحية، فقد عجزت المعارضة عن تعيين مرشحها للرئاسة وعن استحواذها على اللجان ثم فشلها بتشكيل تحقيق فيما حدث في الجلسة الإفتتاحية ثم شطب الداهوم واخيراً فشلها في تعطيل القسم، إن أكثر من ثلاثين نائباً من أصل خمسين لم يكفي المعارضة لتتجاوز القدرات المهولة التي منحها الدستور واللوائح للحكومة لبسط يدها على العملية البرلمانية.
تظهر المعارضة وعلى الرغم من شخصيات بارزة وذات تاريخ برلماني طويل عجزا واضحا في إدارة الصراع مما يجعلها مكبلةً أمام الضربات التي تشنها الحكومة، مما يضع الكتلة البرلمانية الإصلاحية في حالة من الدفاع الدائم والتفاعل كردة فعل على الممارسات السلطوية، نكتشف من خلال المتابعة الدقيقة للصراع أن مشكلة هامة وملحة قد أثرت كثيرا على قدرة الحركة الإصلاحية في إحراز مكاسب جديدة وبقاء دورها في حدود حماية ما يمكن حمايته من المكتسبات التاريخية، إن هذا التوتر الدائم والذي يشل الحركات الإصلاحية منذ نشئها على طول التاريخ السياسي الكويتي سببها أن الصراعات السياسية بمختلف أشكالها تحصر في البرلمان، الذي غالباً ما يعطي للحكومة اليد العليا فيه، تسعى الحركات الإصلاحية أن تقرْ الأحزاب لإدراكها لضرورتها في تنظيم العمل السياسي ، ولكن وجود الأحزاب لا يكفي لتوسيع دائرة الصراع أو تنويعها وهذا ما تحتاجه الحركات الإصلاحية، إن ما على الحركات الإصلاحية فعله هو استيعاب نقاط القوى لدى الحكومة والقفز على حدودها ، فإن أي دعوة لحصر الصراع داخل القبة البرلمانية هي دعوة للمثول أمام طغيان اليد العليا فيه وهي الحكومة.
يشتد الصراع بين السلطات الثلاث فتارةً تتقدم السلطة من خلال جهازها التنفيذي بالتعدي على السلطة التشريعية وبرلمانها وتارةً يصد البرلمان هذه التعديات بدعمٍ شعبي جارف، فيما تبقى السلطة القضائية ممزقةً بين دستورية تطعن في احكام التميز كقضية الغاء عضوية د. بدر الداهوم في مارس ٢٠٢١ وإلغاء عضوية النائبين السابقين د. جمعان الحربش و د. وليد الطبطبائي أكتوبر ٢٠١٨، وتظهر المعارضة انشقاقاً واضحاً للعيان بين توجهٍ يدعو إلى حل البرلمان وإعادة انتخاب رئيسه وتغيير رئيس الوزراء بقيادة العضو السابق د. فيصل المسلم وأعضاء برلمانين على رأسهم محمد المطير وشعيب المويزري، فيما تبقى كتلة ناعمة -تفاوضية- مكبلة بين استبداد الحكومة وصلابة المعارضة بقيادة د. حسن جوهر تفتقد الجرأة السياسية وغموض المطالبات.
يعطي هذا النوع من المعارضة ما بين كتلة صلبة وأخرى ناعمة ميزة تستطيع المعارضة استغلالها لتحقيق مطالباتها، فلولا وجود كتلة صلبة قادرة على تأجيج الرأي العام وممارسة الضغط على الحكومة لاستهانت الأخيرة بها، ومن ناحية أخرى تساهم هذه الكتلة الصلبة بتقييم المعارضين وجعلهم تحت الرقابة الشديدة للرأي العام مما يجعلهم ملتزمين بمواقفهم الإصلاحية حتى وإن اضمروا غير ذلك، فالرصيد الشعبي هو المهم، فيما تتجسد مساوءاها في قدرتها على الانحراف عن التقويم والرقابة على الكتلة الإصلاحية ككل إلى ممارسة المزايدات الشعبوية تجاه الكتلة الناعمة، مما يؤدي الى إمكانية انقسام المعارضة وتفككها من جهة أو جمودها وعدم قدرتها على المفاوضة والمبادرة من جهة أخرى.
تكمن مشكلة الكتلة الناعمة -التفاوضية- بأنها تتفق على المطالب العامة كقضية العفو وتغيير النظام الانتخابي وقوانين الحريات وامن الدولة وملف الجنسية وغيرها، فيما تختلف في تفاصيل هذه القضايا مما يجعل فرصة انقسامها واختراقها من قبل الحكومة امراً متوقع، تحتاج هذه الكتلة التي يتزعمها ضمنياً د. حسن جوهر إلى تحديد القضايا المتفق عليها ومناقشة التفاصيل فيها حتى يتم الاتفاق، كي تتمكن من اظهارها للرأي العام ومناقشتها وتأييدها او تعديلها، وهذا ما سيضفي الشرعية على هذه المطالبات ونوع التعديلات المطلوبة شعبياً، فالخلاف على النظام الانتخابي على سبيل المثال ما زال قائما داخل الكتلة وما زال يهدد اجتماعها وغيرها من القضايا الأخرى كالتي تتعلق بالحريات وقوانين أمن الدولة.
تتضح المشكلة العميقة في العمل السياسي الكويتي من خلال غياب التنظيم السياسي عن طريق الأحزاب وضعف المجتمع المدني المعزول سياسياً ممثلاً بالنقابات وجمعيات النفع العام عن الصراع السياسي بشكل واضح وهذا ما يقلل من الأدوات التي يمكن للحركة الإصلاحية الاستفادة منها، ليس فقط من خلال الإضرابات الجزئية والشاملة التي بواسطتها يستطيع الإصلاحيون إرضاخ الحكومة وإجبارها على الجلوس على طاولة الحوار، بل ومن خلال خلق كيانات تسمح باستقطاب المواطنين المسيسين في الحركة الإصلاحية، مما يوسع رقعة الصراع وينوع أدواته، فدمج الناشطين السياسيين في الحركة الإصلاحية أحد أهم الضرورات التي تقتضيها المرحلة. يمكننا أن نقول بما لا يقبل الشك فيه أن خلق قنوات بين الأعضاء والسياسيين خارج البرلمان هو أمرٌ لا يمكن تجاوزه في حال التحول الديمقراطي المنشود في الكويت، ولكن نوع تلك القنوات أو الحواضن أيّ مؤسسات المجتمع المدني لا يجب أن تكون مرهونة بطبيعة أعضاء البرلمان وعلاقتهم بمن هم خارج اللعبة البرلمانية، بل إن تخليص النقابات وجمعيات النفع العام من سلطات الدولة ضرورةٌ لا بد منها، إن بناء الدولة الحديثة وديمقراطيتها لا يقوم إلا على وجود مؤسسات أهلية معترف بها من قبل الدولة وخارج حدود سلطاتها في آنٍ واحد، وهذه الضرورة هي ضرورة قصوى على الإصلاحيين إدراكها والعمل لتحقيقها، فلا يمكن أن ينتهي دور الشعب وسياسيه بعد أن يتم إنتخاب أعضاء البرلمان، بل على هذا الوجود أن يستمر كي يكون داعماً للإصلاح ومراقباً لدور مقيميه.