الموت بطبيعته المباغتة والصادمة: مفجع وشديد الإيلام. وهذا الذي يجعله عندما يحدث ـ رغم تكراره وبديهيته وحتميته ـ وكأنه لم يحدث أبدا. وعلى الرغم من الفاجعة المصاحبة له، إلا أن الموت أبدا لم يكن مانعا عن الكلام أو مقيدا له. بل على العكس من ذلك، دائما ما يكون موت شخصيات بحجم غازي القصيبي محرضا على الكلام… خصوصا إذا كان هذا الكلام يبدأ من غازي ليتجاوزه لما هو أهم من غازي: إصلاح وطن يبقى حيّا مهما ابتلع ثراه من جثث رجالاته.
رحل غازي إذن، ولم تعكس جنازته في الرياض ـ بعدد الحاضرين وهوياتهم ـ شعبيته، بقدر ما عكستها “جنازته الالكترونية”… في المنتديات والفيسبوك وتويتر والمجموعات البريدية ومختلف أوعية التواصل هذه، حيث تلونت صفحات الناس بصورته وملأ اسمه تواقيعهم. وانهالت مقالات الصحف السعودية وقنوات التلفاز رثاء، وإطراء، وإشادة بشخص الراحل… ولم يتشمت بموته ـ وكأنهم لن يموتوا! ـ إلا بضع كتاب سلفيين. وفي غمرة فيضان الإطراء هذا، المدفوع بمشاعر الحب والوفاء وأحاسيس العرفان والتقدير، غابت تلك الحاسة التي لا ترحم، والتي لا تحابي، تلك التي لا تكف عن طرح الأسئلة التي تفادى الجميع طرحها، أعنى بها: حاسة النقد. فكم المدائح المدبجة هنا وهناك لم تصور الأمر على أنه مجرد حزن على شخصية مشهورة، أو ناجحة، أو كاتب مبدع… بل صورته وكأنه تأبين إصلاحي وشخصية ناضلت من أجل الإصلاح طوال حياتها، وعند هذه الصورة تحديدا سنتوقف لنسأل هذا السؤال: ما هو ذلك المميز والاستثنائي الذي قدمه غازي في سبيل إصلاح الدولة؟ وعند تفحص ما يكتب نجد أن الأجوبة تدور حول: غازي الأديب ذو المعرفة الموسوعية، غازي الإداري الناجح، غازي المثقف التنويري الذي وقف في وجه الصحوة… وكل ما سنقوم به في الأسطر القادمة هو تفحص هذه الأجوبة تفحصا نقديا.
لنبدأ بما يقال لنا عن غازي بأنه كان أديبا واسع الإطلاع. لا يستطيع أحد إنكار هذا الأمر، وهو يرى بعينه عشرات المؤلفات المتنوعة ما بين روايات ودواوين الشعر وأخرى فكرية. لكن هل كان هذا الإنتاج الضخم يصب في صالح الإصلاح والتغيير؟ أعلم أنه ليس عليه أن يفعل ذلك، ولكن السؤال يظل مشروعا طالما أننا نبحث عن الجانب الإصلاحي في ما قدمه غازي، وللإجابة عليه سأقتبس ملاحظة دقيقة كتبها عبدالعزيز الخضر، في كتابه الأخير عن السعودية، إذ يقول عن القصيبي: (نجد أن الثقافة لديه تبدو وكأنها من أجل الثقافة فقط.. وتتحول إلى مجرد بريستيج اجتماعي لا يختلف عن أشياء أخرى، فتبدو كتاباته استعراضية أكثر منها موقفا فكريا ورسالة تنوير ومبادئ صارمة) (ص526). سنعود لهذا التعليق فيما بعد لنوضح أن هذه السلبية عن اتخاذ مواقف ونشر رسالة تنويرية كانت محصورة في مجال محدد فقط، هو مجال الإصلاح السياسي، إذ أنه في مجالات أخرى كان يتخذ مواقف ، ومواقف واضحة جدا.
لننتقل الآن إلى الإجابة الثانية التي تعتبر تجربته الإدارية في الوزارات والإدارات التي تسلمها تجربة استثنائية وأن ما قام به بصفته الإدارية كان عملا إصلاحيا। وأن تأتي مثل هذه الإجابة على سؤال يستفسر عن المنجز الإصلاحي، فهذا يضعنا أمام إشكالية كبرى لا يتم داخلها التمييز بدقة بين العمل في الدولة، وبين العمل من أجل إصلاح الدولة سياسيا. فأن يكون غازي وزيرا نزيها أمينا حقق عددا من الإنجازات في فترة وزارته إبان “الطفرة الأولى” في الخطط الخمسية الثانية والثالثة، حيث المشاريع الطموحة والسيولة المتدفقة، فهو هنا لم يقم بأكثر من واجبه وما هو مطلوب منه. ومصدر تميزه هنا ليس شيئا آخرا غير بؤس غيره وفسادهم وعجزهم عن تحقيق إنجاز في فترة كانت كل الظروف مهيأة لتحقيق إنجازات. كما أن مؤسسات الدولة كانت في تلك الفترة في مرحلة (سائلة) حيث كان تشكيلها وتطويعها أسهل بكثير من الفترة الحالية بعد أن تصلبت وترسخت فيها هذه التقاليد البيروقراطية المعيقة لأي إنجاز، الأمر الذي واجهه القصيبي نفسه عند عودته وزيرا في مرحلة الطفرة الأخيرة حيث لم يستطع تحقيق إنجاز واضح ومميز في ملف البطالة الذي كان يتولى علاجه لسنوات تعادل عدد سنوات فترته الوزارية الأولى. وبتدقيق أكثر في مسيرته الإدارية، نجده لم يختلف عن غيره من ناحية كونه قبل عملية التدوير اللانهائي لمجموعة محددة من الشخصيات ـ التي شاركته الوصول لسن التقاعد ـ حول الحقائب الوزارية، ولم يقدم نموذجا للإداري الذي يتنحى مفسحا لغيره الطريق لأن يتولى.
وقبل أن نتجاوز هذا الجانب الإداري، يبقى أن نعلق على الصورة التي دائما ما يتم طرح القصيبي من خلالها، باعتباره “مؤمن آل فرعون” أو الإصلاحي المتستر ببشت الوزير، الذي يسعى للإصلاح السياسي بصمت من داخل الدولة، والذي اختار العمل تاركا لغيره الحديث والكلام. في الحقيقة، جانب كبير من هذه الصورة قائم على التمني أو التوقع أو حتى أحاديث المجالس. إذ لا توجد وقائع ومواقف مثبتة يمكن استنباط هذه الصورة من خلالها. وعلى فرض صحتها ـ رغم كونها لا تختلف كثيرا عن طريقة الإصلاح المثلى التي يروج لها السلفيين، أي النصيحة السرية ـ فإن الذي ثبت من خلال مسيرة 35 عاما من محاولة إصلاح الدولة من داخلها سياسيا، أن هذه المحاولة قد فشلت قبل وفاة صاحبها، ولا بد من دفنها معه. فالعمل من داخل أي مؤسسة بنوايا إصلاحية فقط هو دائما عمل محدد بمساحة الحركة التي يفرضها صاحب السلطة. وهذا النوع من المساحة لا تستطيع النوايا فيه إلا أن تمني نفسها بفرصة سانحة، وكلما تأتي مثل هذه الفرصة يتم تفويتها بحجة عدم التفريط بالمكان إلا لفرصة بحجم هذا المكان… وهكذا إلى أن يصبح معنى (الإصلاح من الداخل) هو المحافظة على المكان لكي لا يقع في أيدي الفاسدين. ولو أردنا توضيح معنى أن يكون الإداري “إصلاحيا”، لما وجدنا خيرا من وزير النفط الأسبق عبدالله الطريقي أنموذجا… هذا الوزير الذي استطاع في أقل من سنتين ـ وفي فترة اضطراب سياسي وفقر مالي ـ أن يحقق أحد أعظم الإنجازات في تاريخ الدولة السعودية ألا وهو تأسيس أوبك، التي لولا قراراتها التي بموجبها تم تعديل أسعار النفط، لما بدأت الطفرة الأولى في السبعينات وما تلتها من طفرات. وليس هذا فقط، بل كانت مشاركته في محاولة إحداث إصلاح سياسي في الدولة من الداخل سببا في عزله عن منصبه واختياره العيش بعيدا. الوزير الناجح ليس بالضرورة ـ هذا إن لم يكن مستحيلا أن يكون ـ وزيرا إصلاحيا. فالوزير الناجح يكون مفيدا في إنجاح عملية التنمية، لكنه لا يكون مفيدا في إنجاح عملية الإصلاح. فالتنمية ليست هي الإصلاح، إذ إن التنمية تدور حول استغلال الموارد من أجل سد حاجات الناس ورفاهيتهم، في حين أن الإصلاح يدور حول منع الدولة من الاعتداء على حقوق الناس وحرياتهم وتحقيق هذه الحقوق والحريات. ولهذا قد تؤدي التنمية في بعض الأحيان إلى إعاقة الإصلاح.
غير كونه أديبا وموسوعيا، وغير كونه إداريا ناجحا، تأتي الإجابة الثالثة لتقول: إنه الوحيد الشجاع الذي وقف أمام الصحوة الإسلامية عندما لم يقف أمامها أحد في التسعينات. لا أحد يشكك في هذه الشجاعة، لكن السؤال المهم: هذه الشجاعة في مواجهة الصحوة هل كانت دفاعا عن مشروع تنويري تحديثي إصلاحي، أم أنها كانت دفاعا عن الدولة؟ إن الإجابة على هذا السؤال مهمة، لأنها توضح بدقة الأنموذج البائس بأبعاده الثلاثة للمثقف الذي كان غازي القصيبي ـ مع مجموعة من المثقفين ظهروا على سطح الأحداث أثناء وبعيد حرب الخليج، بعد أن كانوا سابقا ثوريين وقوميين كتركي الحمد ـ أحد أهم نماذج ترسيخه في الثقافة السعودية. كنا قبل قليل قد اقتبسنا ملاحظة مراقب مدقق عن القصيبي، يبقى الآن أن نضعها ضمن حدودها. فهذه الملاحظة تكون صحيحة فقط عندما يتعلق الأمر بالدولة، فهنا تتحول الثقافة إلى محض “برستيج”. لكن أنموذج المثقف هذا الذي مثله القصيبي هو ـنموذج نقدي أيضا، لكن سهام نقده لا توجه إلا إلى ثلاث مجالات: الصحوة، والمجتمع، والسياسة العربية (خصوصا المحاور الممانعة لعملية السلام أو التي انحازت للعراق في حرب الخليج أو بقايا الخطابات القومية والثورية كما أشار إلى ذلك الخضر أيضا). وهو الأنموذج الذي سيتفجر كل بُعد منه إلى نسخ عديدة متكررة تسير على نفس النهج الذي مارس القصيبي عليه أثرا كبيرا. وسنركز حديثنا حول هذه الأبعاد وما أحدثه كل بعد من أثر في الثقافة السعودية، وخصوصا في تغييب مفهوم الإصلاح السياسي، باعتبار الإصلاح عملا نضاليا موجها ضد كافة التعديات على حقوق الإنسان والحريات الخاصة والعامة، وبصفته من الناحية الأخرى مطالبة مشروعة بمشاركة الشعب في إدارة الدولة ومراقبتها.
فبخصوص البعد الأول، فيكاد يكون هناك توافق كبير بين النقاد على أن “شقة الحرية” المكتوبة عام 1994م، كانت بداية فصل جديد في الرواية السعودية. كانت لحظة تفوق الرواية على الشعر، ولحظة إخفاء السيرة الذاتية على شكل رواية تستهدف استفزاز الظواهر والمحظورات الاجتماعية. لحظة تدبيب الرواية، واستخدامها كرمح تتم به مواجهة كل شيء ما عدا السياسي. كانت شقة الحرية وثلاثية تركي الحمد، هي “النماذج” التي على إثرها سيسير جيل كامل من الروائيين أنتجوا عددا هائلا من الروايات في السنوات العشر الأخيرة. جيل تحولت فيه الرواية إلى أداة تفريغ كل العقد الجنسية والطائفية والمناطقية والدينية، وجيل تتحدث فيه الرواية عن واقع قد اختفى منه السياسي تماما. لست ناقدا أدبيا، لكني أستطيع تفحص كيف كان أثر هذه الروايات على الجيل الذي أنتمي إليه، فلم تكن مصادفة أبدا أن تكون لحظة “الانعتاق” والتحرر عند كثيرين ممن أعرف هي لحظة قراءة “شقة الحرية” أو العدامة وغيرهما… هذا النمط من التحرر قد كرسته بيئة المنتديات السعودية الانترنتية التي صورت قراءة هذه الروايات أو القراءة لهذه الشخصيات، أشبه ما يكون بقراءة البيان الشيوعي. من هنا يصبح معنى “التحرر” الذي ترسخ، هو “التحرر من شمولية المجتمع” لا تحررا من الطغيان، ويصبح معنى النضال ليس الكشف عن هذا الطغيان ومواجهته بقدر ما هو كتابة رواية عن كل ما يخفيه هذا المجتمع من جوانب مظلمة. نشأ في هذا السياق روائيون يحاربون مجتمعهم، وجمهور يشفي غليله منه عبر قراءة هذه الروايات! وأنا هنا لست ضد انتقاد المجتمع، لست ضد انتقاد عدد كبير من المظاهر التي فيه، وأؤمن أن إصلاح هذه المظاهر الاجتماعية ضروري، لكن الذي أؤمن به أيضا، أن إصلاح هذه المظاهر لا يتم أبدا دون النظر إليها ضمن وعائها السياسي الذي يحتويها، أي ضمن الدولة ومؤسساتها وكيف تقوم هذه المؤسسات بتعزيز هذه المظاهر وتقويتها، بل تصل في بعض الأحيان لحمايتها. من هذه الزاوية، عندما يتم توظيف الرواية كأداة نضالية مقابلة للكاسيت، وعندما يتم توجيهها لمجتمع يتم تصويره وكأنه موجود في اللامكان، فإن النضال يتحول حينها إلى محض مصارعة لطواحين الهواء…
أما بخصوص البعد الثاني، فقد مثل كتاب “حتى لا تكون فتنة”، الأنموذج الذي ستسير عليه كل عملية نقد للصحوة فيما سيسمى بعد ذلك تيارا تنويريا أو لبراليا. فغازي اعتمد في كتابه هذا على عدد من التكتيكات لمقارعة الصحوة: أولا، تحييد “الثوابت”، أي الكتاب والسنة والدولة. ثانيا، استعداء الدولة (تصوير الصحوة بأنها تستهدف الاستيلاء على الحكم، وتصوير سلمان العودة بأنه خميني جديد). ثالثا، مناقشة خطاب الصحوة بنفس لغته وأدواته… عبر الاستدلال بالآية والحديث وبأقوال السلف الصالح. رابعا، عدم السعي خلف توضيح المفاهيم التي كرس خطاب الصحوة صورتها بأنها مكافئة للكفر (كان الأسلوب الذي اختاره غازي القصيبي عندما حاور ناصر العمر أسلوب المطالب بإثبات صحة اتهامه العلمانية، بعد أن قام باقتباس تعريف هذه الأخيرة من “موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة”! في حين كان من المفروض توضيح حجم التلبيس والتشويه الذي مارسته الصحوة في تصوير هذا المفهوم على أنه فزاعة تخيف بها أتباعها وتخوّف بها الآخرين). هذه الأساليب بمجموعها لا يمكن أن يتبناها مثقف يهدف إلى الإصلاح، وإنما يمارسها من رأى أن خيار الدفاع عن الدولة بوضعها الحالي ومواجهة الصحوة هو أفضل بكثير مما سيكون عليه الوضع في حال تقوت هذه الصحوة وتمكنت. أي أنها ليست خيار من يملك مشروعا تحديثيا، بقدر ما هي خيارات من لديه رهاب من تعاظم قوة الصحوة. هذه الوسائل في الحوار والنقاش ستبدأ بالظهور والتكرار لتناقش نفس القضايا وتعيد تدويرها مرة بعد أخرى: قيادة المرأة، كشف الوجه، الاختلاط، النهي في المواضع المختلف عليها، الأغاني….إلخ، بحيث يتم نزع السياسي من مواضيع الحوار، وبالتالي يصبح الإصلاح ليس شيئا أكثر “من نقد الصحوة” أو ـ باختصار بسيط ـ نشر مجموعة من الأحكام الفقهية أقل تشددا من التي تتبناها الصحوة وموائمة لمجتمع الوفرة الاقتصادية. وفي هذا السياق، نشأ تيار من الكتاب التنويريين واللبراليين قضيته هو مناكفة الصحوة، يتابعهم جمهور من الباحثين عن الخلاص من تأنيب الضمير الذي تسببه لهم ممارساتهم اليومية التي تحرم الصحوة جزءا مهما من جوانبها. في تأبين القصيبي، كتب عبدالرحمن اللاحم مع من كتبوا ـ وإن بشيء من المبالغة ـ عن أثر كتاب القصيبي عليه هو وأصحابه قائلا: (لقد أحدث ذلك الكتاب و مقالات (في عين العاصفة ) زلزلة عميقة في معسكرات التمرد الصحوي في أوائل التسعينيات، و خلخل تلك التنظيمات التي خافت على مريدها من أن يتخطفهم القصيبي بقلمه…)، نستطيع الآن بعد عشرين سنة، أن نكتشف عن ماذا تمخضت عنه هذه الزلزلة: محض تيار شتائمي، يتحاشى انتقاد الدولة ويستعديها على خصومه، وصولي، لا يملك أي مشروع أو رؤية سوى جملة سلبية: لا للصحوة.
أما البعد الثالث، فهو الحديث في السياسة العربية. وهو ليس نقد المثقف المستقل لسياسة الدول العربية عندما تنحاز لمصالحها الخاصة ضد مصالح الأمة، بل هو انتصار لمحور عربي يضم دولا وتحالفات ورؤية محددة ضدا على محور آخر… إنها دعوى “الواقعية” التي تقدم المصالح القطرية والعلاقات مع القوى العظمى، على “المصالح القومية”، إنها “العقلانية” البرغماتية التي تعيد تشكيل الأهداف بما يتكيف مع الوسائل التي تريد استخدامها. إن اللجوء لهذه الحزمة من الأدوات الفكرية والقيم يكون تلقائيا بمجرد ما ينذر المثقف نفسه للدفاع عن جزء من الأمة ضد جزء آخر منها. وقبل أزمة الخليج، كانت الدولة تستأجر أقلاما عربية للدفاع عنها ضد أقلام عربية أخرى… ولعلها حرب الخليج هي التي من خلالها بدأ المثقف السعودي يشارك في هذه النقائض بين المحاور العربية… وكان غازي القصيبي أحد هؤلاء المثقفين. في تأبينه لغازي، يذكر عبدالرحمن الراشد أنه (كان في كل مرة أقابله وهو حانق بسبب مقالات تنشر ضده، يردد كلمته: يا أخي ما أعرف لماذا يصنفونني معكم..) وهذا الكلام صحيح، لم يكن غازي مماثلا للراشد، أي صقرا من صقور (الاعتدال) ـ بحسب الأوصاف المستخدمة هذه الأيام ـ ومنحازا بشكل صارخ مع كل ما هو أمريكي ضد كل ما هو قومي.. لكن هذا لا يعني أنه لم يكن أحد (حمائمه)، ينطلق في نظرته (الواقعية) للسياسة العربية من ثوابته التي حددها في مقالة (لحظة الحقيقة: الخيارات الثلاثة): أن إسرائيل أقوى عسكريا من العرب، أن الدول العربية خاضعة للنفوذ الأمريكي، وأن الدول العربية تقدم مصالحها القطرية على المصالح القومية عند الاختلاف؛ والتي أثبتت العشر سنوات التي تلت هذه المقالة المكتوبة مطلع عام 2001 أنها لم تكن بتلك (الواقعية). وبغض النظر عن تفاصيل نظرته للواقع العربي، فهي نظرة تسعى لتبرير سياسة الدولة الخارجية وعدم توجيه أي انتقاد لها. إن هذا البعد من الأنموذج الذي أسهم في ترسيخه، انفجر إلى نسخ عديدة أكثر تطورا. فبعد أن كان محض دفاع عن محور ضد محور آخر، تحول إلى مهاجمة كل من لا ينتمي لذلك المحور، حتى وإن كان مثقفا مستقلا يحامي عن مصالح الأمة بمجموعها. وازداد التفنن في الدفاع عن السياسة الخارجية ومحور الاعتدال ليصل إلى حدود الوقاحة وانعدام المروءة في توجيه اللائمة في حرب مثل حرب غزة الأخيرة على الضحية المحاصرة. والنقطة هنا، أنه في هذه المقالات الأسبوعية التي يجود بها علينا محللونا السياسيون، لم نقرأ يوما مقالة فيها شبهة انتقاد لسياسة البلاد. لا أعلم، لعله الظرف التاريخي الصعب في حرب الخليج اضطر غازي ومن معه للدفاع عن الوطن من الجبهة الثقافية بهذه الطريقة، لكن الأثر السيئ الذي نتج عن هذا الدفاع هو أن الحديث عن السياسة الخارجية أصبح من يومها دفاعا عن مصالح الدولة وحلفاءها ضد أي مصلحة أخرى، وعدم توجيه أي انتقاد لها.
لست أسعى في هذه الكتابة لتحميل غازي كافة رزايا جيل المثقفين السعوديين التنويريين واللبراليين، لكن كل الذي أردت إثباته هو أن الدور الذي لعبه غازي القصيبي أثناء وبعد حرب الخليج، كان له تأثير كبير في كل بعد من الأبعاد التي تناولتها سابقا، وأن هذه الكاريزما قد أنتجت أثرا واحدا في كل مرة: أدب منزوع السياسة، نقد ديني منزوع السياسة، نقد السياسة الخارجية منزوع السياسة أيضا! وهذه الجريرة لا يتحملها غازي لوحده بطبيعة الحال، لكنها جريرة النخبة المثقفة التي ظهرت على السطح بعد أزمة الخليج، ورسخت هذه الصورة للمثقف بأنه مثقف يستطيع رؤية كل شيء، إلا الدولة!
قلنا إن الموت مفجع… لنضف الآن أن موت إنسان لا يعني غيابا واختفاء، بقدر ما يعني أيضا ولادة أخرى. فعلى سبيل المثال، موت غازي هو ولادة لوزير عمل جديد. لنأمل أن وفاة هذا الرجل الظاهرة الذي لم يكف عن إثارة الصخب في كافة مراحل حياته، أن يكون موتا أيضا لهذا النموذج من المثقفين الذي ساهم في ترسيخه، وأن يكون كذلك ولادة لنموذج آخر من المثقفين غير منزوعي السياسة!
مرحبا استاذ سلطان
بالبدايه احب اعبر عن اعجابي بهذا المقال فاثناء تصفحي لمدونتك الجميلة وكتباتك العميقة اندهشت لمقالتك هذه ووجدت فيها نقد موضوعي وعميق للايقونة والرمز بالنسبة لي القصيبي رحمة الله عليه وكليبرالية اجدك انصفته لانك نقدته بمايمتاز به وليس ماينسب اليه
ونعم نحن متطرفون لمن نحب جميعا ايا كانت توجهاتنا فلن نتكلم عن من نحب الا بعاطفة وقداسة فجميل ان ياتي شخص محايد كشخصك ويكتب بمنطقية واتزان اشكرك من اعماقي
+
مقالاتك مستفزة للتعليق لكني اجد حرج شديد ان اعلق على مقالات قديمة لكن هنا بمقالك هذا لامست امر حميمي بالنسبة لي فاعذرني ان عقبت على مقالة قديمة كهذه ولو بودي لعلقت على جميع مقالاتك ههه
ومايدهشني انك لست بتلك الشهرة المتوقعة كما انني احيان اندهش ان هذه المقالات نشرت اصلا بصحفنا المحلية لماتمتاز به من جرأة بالطرح فاتسائل وعذرا على التطفل لماذا سلطان العامر ليس قلم مشهور او محاط بهالة اعلامية وزخم كغيره من الاقلام حتى اني بحثت عن تويترك وماحصلته!
امر مثير للتعجب
عموما اسفة على الاسهاب المطول واتمنى ان لاتنزعج من تعليقي واتمنى لك المزيد من التألق والابداع والتوجد الاعلامي فانت تستحقه
تحياتي وتقديري
(F)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
لديك قبول من العامة، لكني أجد صعوبة في أفهم السبب. فأنت شخص متناقض متقلب تنحاز لمن تهوى، مع تجاهل وتلفيق الحقائق. وفيك نزعة غرور عجيبة، فمن تظن نفسك؟ قال سبحانه وتعالى: “وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” تستهزئ بالآخرين وتسخر منهم، وفي المقابل لا ترضى ذلك على نفسك! تدعي قيم اخلاقية، لكن سرعان ما تتخلى عنها حسب اريحيتك. وكأنما انت جاعل دينك هواك.
الله يسامحك، يمكن طيب اللي بيننا سوء فهم ولو تناقشنا حوله ممكن نوصل لمستوى انك تفهمني وانا افهمك.
جنازة القصيبي كانت بالبحرين
أخشى فقط أن موته يُنتج بالضرورة وزراء منزوعي السياسة إلا من
تطويع السياسي! قطعة نقدية جميلة
ما ازدت بعد الفهم إلا حيرة
والنص مثلي تائه يتحير
من منتهى برلين كنت مسافرا
والقول في برلين لا يتخير
فإذا مقالك دون إذن جائني
تبدي به حبا وسيفك مشهر
ما أكثر الألوان في أشواقنا
لكنها في القصد لا تتحور
رحّلتني شرق البلاد وغربها
وأنا إلى “نعم” و”لا” أتضور
هل كان جادا في الهوى أم لاهيا؟!
هل كان مثلك بالهوى يتبختر؟!
وإن مضيت فقولي: لم يكن بطلا
لكنه لم يقبل جبهة العار…