يولد المرء في مستوى اجتماعي واقتصادي وثقافي محدد مسبقا، فهناك من يولد في القصور وهناك من يولد في بيوت الطين. وتختلف مواقف البشر إزاء هذه المستويات التي يجدون أنفسهم أمامها، فهناك من يحاول تغييرها وهناك من يحاول المحافظة عليها وعدم التفريط بها، وآخر يسعى لمراكمتها وتدعيمها. وعلى مرّ العصور، اختلفت المجتمعات البشرية في مساحات الفرص التي تمنحها لأفرادها من أجل السماح لهم بتعديل أوضاعهم الاجتماعية. فهناك مجتمعات طبقية مقفلة كتلك التي كانت في الهند، حيث يكاد يكون الانتقال من طبقة لأخرى أمراً مستحيلاً. وهناك مجتمعات طبقية مفتوحة، يكون الانتقال فيها بين الطبقات أمراً متاحاً ومفتوحاً بحسب الكفاءة والمثابرة والجدارة.
هنا، في السعودية، يمكن تحديد أربعة مجالات يستطيع من خلالها الفرد الانتقال من قاع المجتمع إلى قمته. هذه المجالات هي: الدين، والثقافة، والرياضة، والفن. كم هي قصص لاعبي الكرة الذين أصبحوا ـ بين عشية وضحاها ـ من أصحاب الملايين، وتوطدت علاقاتهم بالأمراء والتجار؟ وكم هي القصص الأخرى الخاصة بفنانين استطاعوا بحناجرهم اختراق كافة الطبقات الاجتماعية ليتربعوا على قمتها؟ يمكن تسمية هذه المجالات بأنها مجالات عابرة للطبقات، على خلاف ـ مثلا ـ الوظيفة الحكومية، حيث لا إعلام يسلط عليها الضوء، ولا يتجاوز الوسط المحيط بالموظف الحكومي مجموع أقرانه الموظفين… اللهم إلا أن يكون له قريب ذو شأن، فيكون له بمثابة بوابة عبور اجتماعي عبر الطبقات والمستويات.
مثل اللاعب والفنان، نجد هناك الشيخ والمثقف. فالشيخ قديما لم يكن سوى فرد عادي من أفراد المجتمع، اجتهد في طلب العلم لدى العلماء وثني الركب، واستطاع عبر مؤهلاته الخاصة وقدراته البديعة أن يتميز سريعا في المجال الديني وأن يكون عالما ذا شأن، وشيئا فشيئا سرعان ما يتم استقطابه ويصبح من كبار وجهاء البلد. هذه القصص لصعود العالم والشيخ، والتي كانت رائجة في السابق، تكاد اليوم أن تكون محدودة، وذلك لأن هذا المجال تعرض لعملية “مأسسة” وتنظيم، فأصبح الصعود من خلاله اليوم يتم عبر قنوات رسمية هي المدارس والجامعات. فضاق كثيرا مجال الدين، وأصبح الجانب الوعظي منه تقريبا، هو المجال الوحيد الذي يستطيع من خلاله المرء الارتقاء اجتماعيا واقتصاديا دون الحاجة للمرور عبر المؤسسة التعليمية، ولدينا في اهتداء “مفحطي” السيارات وغيرهم أمثلة حيّة على هذا الصعود الاجتماعي السريع زمنيا، لكنه محدود نسبيا.
ننتقل الآن إلى الثقافة. ففي هذا المجال ـ وهو مجال حديث تقريبا ومختلف عن المجال الأكاديمي ـ يمكن للمرء الارتقاء سريعا دون أن يكون لديه أي مؤهل أكاديمي. فإلقاء نظرة عامة على كتاب الصحف والجرائد في السعودية أو المذيعين والمقدمين الإعلاميين المهتمين بالشأن الثقافي، يوضح أن هذا المجال مفتوح على مصراعيه للوصول والارتقاء اجتماعيا. فبالثقافة تستطيع أن تلتقي بعدد كبير من المسؤولين المهتمين بالثقافة، وتستطيع الجلوس مع شخصيات متنوعة من خلفيات اجتماعية ومستويات اقتصادية متعددة.. فالثقافة كما قلنا “عابرة للطبقات”.
وهنا نجد أنفسنا أمام مفارقة، سرعان ما تتحول إلى أزمة: فالمثقفين الذين يفترض بهم أن يكونوا النخبة المعبرة عن ضمير الشعب في مواجهة السلطة، والفاضحين لكافة الممارسات السلطوية والمنحازين لحقوق الناس ضد من يحاول اغتصابها، يجدون أنفسهم في مجال مفتوح ومليء بالمغريات المالية والاجتماعية…، فبالثقافة، أي بالإطلاع على مجموعة بسيطة من الكتب والتمتع بأسلوب كتابة جذاب نسبيا، تستطيع أن تصل بدخلك الشهري لمستويات لا يستطيع صاحب الشهادة الجامعية ـ التي كلفته أربع أو خمس سنوات من عمره ـ أن يصل إليها. في هذه المفارقة، يجد المثقف نفسه في أزمة، بين أن يؤدي دوره التاريخي والمطلوب منه، وبين أن يستسلم لمغريات هذا المجال المفتوح… وبمجرد أن يحسم قراره ويقرر استغلال هذا المجال لأطماع وطموحات شخصية ووضع ضميره بين قوسين مدى الحياة، يتحول المثقف إلى ما أسميه “مثقف العلاقات العامة”، وما أكثرهم حولنا.
مثقف العلاقات العامة، مثقف يتحاشى الحوار والنقد، لأن الحوار والنقد يعكران عليه صفو بناء علاقات متنوعة مع عدد كبير من المثقفين والمسؤولين. ومثقف العلاقات العامة إن كتب، فهو بالغالب يكتب في أحد مجالين: مجال هو أشبه بالمسرح الذي يتراقص فوقه بشكل فج ووقح، محاولا كسب ود هذا الأمير أو ذاك المسؤول، أو مجال شديد العمومية، من شدة عموميته، يكاد أن لا يتكلم عن شيء، وهذا المجال الأخير يهتم به هذا النوع من المثقفين ليؤكدوا من خلاله ألمعيتهم ونباهتهم، وفي الوقت نفسه، يضمنون أنهم لن يثيروا غضب أحد، لأن العموم ليس له معنى وبالتالي لا يغضب أحدا. مثقف العلاقات العامة، يحرص على مصادقة المثقفين، والجلوس معهم، ولا يكتفي بهذا، بل يكاد يكون هو المتحدث الرئيس في المجالس التي يجتمع معهم بها، يتحدث ويتحدث، لكنه لا يقول شيئا: يستعرض أسماء الأعلام، يعدد أسماء الكتب، يتباهى بمن يعرف من المثقفين، لكنه لا يقدم رأيا ولا ينقد آخر ولا يعبر عن أي همّ ثقافي. هذا النوع من المثقفين: سهل بيع الذمة، وبوصلته الأخلاقية منتكسة، فهو على استعداد لإدانة الضعيف والمهمش وتحميله جريرة كافة المصائب من أجل رسم البسمة على من يرجو من جيبه الخير نهاية اليوم.