ألف كارل بوبر كتابا في بدايات القرن العشرين بعنوان “منطق البحث العلمي”؛ كان الهدف من هذا الكتاب مناقشة مفهوم الاستقراء الذي تعتمد عليه “دائرة فيينا” الفلسفية والعلمية في تحقيق قضاياها.ولتحقيق هذا الهدف كان على بوبر أن يتناول مواضيعا من ثلاثة مجالات كبيرة على الأقل: الفلسفة، الرياضيات، العلوم الطبيعية، وعلى الرغم من تعقيد هذه المهمة وصعوبتها إلا أنه شدد في إحدى مقدمات كتابه على التالي، يقول “… وإنني بتركيزي الشديد هذا على ضرورة استخدام اللغة، والكلمات، إنما أرغب في التشديد على أنه يتعين علينا استخدام اللغة البسيطة، الواضحة، العادية والمتواضعة؛ اللغة التي تستخدم المصطلحات التقنية بعناية شديدة؛ اللغة التي يمكن ضمنها لأية نقطة أن تصاغ دون التباس، وبطرق عديدة، مما لا يجعل الأمور رهينة استخدامنا الخاص للكلمات. باختصار: لغة لا تكون فيها الكلمات هي القضية“. مهمة تحتاج إلى معرفة عميقة يشدد بوبر على التزامه بصياغتها في لغة بسيطة… هل يمكن أن يجتمع العمق والبساطة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، لابد أن نشير إلى خلط نواجهه باستمرار بين التعقيد والعمق، وبين السطحية والتبسيط؛ فهناك من المثقفين من يتعمد الكتابة بأسلوب شديد التعقيد، شديد التقعر، اعتقادا منه أنه بهذه الطريقة يحكي شيئا عميقا.. فبالنسبة له: العميق لا يمكن التعبير عنه سوى بالأسلوب الشديد التعقيد، بل حتى لو كان يستطيع التعبير عن فكرته بأسلوب بسيط؛ فسرعان ما سينشأ حاجز نفسي بينه وبين هذا الأسلوب؛ ليعدل عنه لأسلوب معقد.
عند هذا النوع من المثقفين يصبح التعبير عن فكرة ما بأسلوب بسيط وسهل دليل على أنها فكرة سطحية… فالبساطة أمارة السطحية؛ بل يزداد الخلط عند بعضهم، لتصبح هذه الألفاظ مترادفة: فالعمق يعني التعقيد، والسطحية قد يعبر عنها بالتبسيط.
فالمثقف، وخصوصا المهتم بالقضايا الفلسفية، ونتيجة لمخالطته للكثير من المواضيع التفصيلية والتهامه لعدد متكاثر من المعلومات وتعرفه على العديد من زوايا النظر واطلاعه على رؤى تجريدية حول مسائل كبرى؛ أقول: نتيجة لهذا كله، يتولد لديه نوع من الإحساس بالتعالي عمن حوله، نوع من الإحساس بأن ما يقوله لا يوجد من يستحق سماعه، يصل هذا الإحساس لنوع يسميه بوبر “التأليه”.
يقول “يفتخر بعض الفلاسفة بمحادثاتهم الذاتية، لاعتقادهم على ما يبدو بعدم وجود من يستحق التحاور معه. إلا أنه من الممكن كذلك النظر لهذا المستوى العالي من التفلسف كأحد أعراض تهافت النقاش العقلاني. ما من شك في أن الإله لا يخاطب إلا ذاته على الأغلب لعدم وجود من يستحق التحاور معه. إلا أنه على الفيلسوف أن يعلم أن ليس فيه ما يؤلهه أكثر مما في سواه من الناس”.
ألا يمكن قراءة هذا الولع بالغموض والتعقيد في الكتابة على أنه نوع من أنواع الامتناع عن الحوار والنقاش؟ ألا يعني إيغال الكاتب في تعقيدات تشعر قارئه بأنه لا يهتم به، لا يتحاور معه، لا يسعى لإقناعه، إنما يترك له دافعا وحيدا فقط لمتابعته وهو التعرف إلى أين سيصل، إلى أين سينتهي… هذا النوع من الكتاب لا يطلب من الكاتب سوى “التفرج” لكنه ينهره عن “المشاركة”، عن التداخل مع النص.
ألا يمكن قراءة هذا الهوس بالتفرد باسلوب غرائبي شديد الغموض بأنه نوع من الارتهان للكلمات أكثر منه ارتهانا للأفكار والقناعات؟ إذا أردت أن تمتحن قناعة ما لديك، أن تتأكد أنك مقتنع بها أم مسحور بصياغتها، كل ما عليك فعله هو محاولة صياغتها بأسلوب ثان. فإن لم تستطع فهناك مشكلة.
إن الإنتصار للبساطة في التعبير، لا يعني أبدا الإنتصار للتسطيح والاختزال؛ بل يعني الانحياز لفتح الباب أمام تحاور الكتابات لا إنغلاقها وتشرنقها، ولتبادل الأفكار، لا التستر خلف الكلمات والاحتماء بها، وللاستعداد للنقد لا النفور منه والهرب وتحويله إلى هرطقة.