في الكتابات المغاربية نجد هناك تلميحات متعددة تشير إلى نوع من الزهو والفخر بكون بلدان المغرب “متجانسة”… فكلهم مالكية الفقه، متصوفة السلوك، أشعرية العقيدة. بل إن بعض مثقفيهم، ينفي عن المغرب بعض اشكالات المشرق، فمحمد عابد الجابري مثلا يشير إلى أن العروبة والاسلام في المغرب يعنيان الشيء نفسه، وأنه- أي الجابري- لم يكن يتخيل وجود عربي غير مسلم إلا عندما درس في دمشق، أي في المشرق. ويشير الجابري، وكذلك عبد الله العروي، إلى نوع من الخصوصية في التجربة المغربية إذ لم تتعارض الوطنية مع الإسلام. والسؤال الذي سنحاول الإجابة عليه: هذا التجانس، ألا يعود لتاريخ طويل من القمع والتطهير الإثني والمذهبي؟
فبلاد المغرب كانت جزءا من أجزاء الدولة الأموي. والدولة الأموية: امبراطورية، لها مركز وأطراف، تُجلب الخيرات من هذه الأخيرة لتُصب في المركز… وتفر الفرق المعارضة من بطش المركز لتحتمي خلف نقمة الأطراف. وهكذا كانت أولى محاولات الانفصال في المغرب: خارجية، نسبة إلى الخوارج. ظل الخوارج يثورون في المغرب، على الدولة الأموية، وعلى العباسية فيما بعد… حتى أسسوا أخيرا مجموعة من الدول كانت أهمها الدولة الرستمية. ولأنها “طرف” فقد فرّ إليها عبد الرحمن الداخل، هربا من بطش العباسيين، ليؤسس دولته الأموية في الأندلس. ولم تتأسس الدولة العباسية، إلا ويتسلل إدريس الاول، أحد أحفاد علي بن أبي طالب، إلى المغرب مؤسسا دولته هناك. واختلف الباحثين في مذهب إدريس، والأقرب أنه من الزيدية الشيعة في بداياتها. وهكذا، لم يأت القرن الثالث إلا وبدأت الثورات الإسماعيلية تتفجر حول الدولة العباسية، سواء من قبل القرامطة في جزيرة العرب، أو من قبل “الفاطميين” في المغرب… الذين تغلبوا على “الأغالبة” مكونين الخلافة التي ستقف ندا لند للخلافة العباسية؛ والتي نظرا لضعفها، لم يتوان عبد الرحمن الناصر الأموي في الأندلس عن إعلان نفسه خليفة ثالثا. وكما هو واضح، كان المغرب موئلا لكل الحركات المعارضة والفرق المقموعة من المركز المشرقي، وكان كذلك منطلقا لها لتأسيس دولها وإماراتها.
بعد تأسيس الدولة الفاطمية في المغرب، انتقلت هذه إلى مصر، محولة بذلك المغرب إلى ساحة للصراع بينها وبين الدولة الأموية في الاندلس. ولكن، وبعد انهيار الدولة الأموية مخلفة دويلات الطوائف، وضعف الدولة الفاطمية، بدأت أولى الدول المغاربية القوية بالتشكل، عنينا دولة المرابطين، والتي سيبدأ معها ملف التطهير المذهبي للمغرب. ففي عهد المرابطين أحرقت كتب ابن حزم و “إحياء علوم الدين” للغزالي، وأصدر ثالث أمراء المرابطين مرسوما عام 538هـ، بتعقب كل مذهب غير مذهب مالك. فتم تتبع كتب الاشاعرة والمتصوفة والمتفلسفة والشافعيين والحنفيين والظاهريين، بالتحريق والمنع.
انهارت دولة المرابطين التي أحرقت كتب الغزالي، وسجنت ابن برجان “غزالي المغرب”؛ وحل الموحدين بقيادة ابن تومرت محلها. أعادت دولة الموحدين الاعتبار إلى الغزالي و”إحياءه”، بل نبشت قبر من دعى إلى حرقه، القاضي ابن حمدين، وصلبته. أعادت دولة الموحدين الاعتبار إلى العقيدة الاشعرية والتصوف، لكنها شنت حملة متشددة إزاء الفقه المالكي، ففي أيام يعقوب المنصور “انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب…”، كما يحكي ذلك عبد الواحد المراكشي.
قد يعتذر البعض عن هذه السياسات القمعية، بالنظر لما كانت تعيشه هذه الدول من حالة “جهاد مستمر” ضد القوى الصليبية في الاندلس. ويبرر هذا التشدد والاحادية، لما يحتاجه الجهاد من تكاتف واتفاق وتوحد. قد نقنع بهذا التبرير، لولا أن مقارنة بين هذه الدول ودولة أخرى معاصرة لها في المشرق، نشأت وتعاظمت بصفتها دولة “جهاد”، عنينا دولة العثمانيين، يجعل من عذر الجهاد هذا واهيا. فالدولة العثمانية المتوسعة في البلقان وفي الجزيرة والشام ومصر، والتي ضمت أنواعا مختلفة من القوميات والاثنيات والاديان والمذاهب، لم تتحول أبدا لدولة قمعية أحادية، رغم حروبها الطويلة مع الصفويين والامبراطورية النمساوية والروس، بل على العكس من ذلك كانت نموذجا للتعددية والتنوع والتعايش السلمي بين مختلف الطوائف والاديان والاثنيات.
إن إعادة الاعتبار لهذا كله، وإضافة ما تسبب فيه قيام دولة إسرائيل من هجرة اليهود المغاربة عنها، يوضح أن هذا “التجانس المغربي” المعتد به، ليس سوى تعبير صارخ عن عصور القمع والأحادية التي عاشتها هذه البلدان.