لم تكن الدولة العثمانية: دولة إسلامية، بقدر ما كانت دولة “سنيّة”… ورثت كل تقاليد الامبراطوريات السنية التي سبقتها. ولم يكن انهيارها انهيارا لكيان سياسي فقط، بقدر ما كان انهيارا وتفككا للمذهب السني نفسه. فالحركات السلفية التي رفعت شعار العودة للكتاب والسنة، والحركات والاتجاهات القومية والعلمانية التي شكلت الدول الحديثة على امتداد الرقعة الجغرافية التي كانت تحت سيطرة العثمانيين، وبداية تشكل الحركات الاسلامية على إثر إلغاء الخلافة، كالإخوان المسلمين… كل هذا أدى إلى إلغاء أو إضعاف أو استتباع المؤسسات الدينية السنية في مختلف الدول الحديثة.
بعد سقوط الدولة العثمانية، كانت التيارات التقدمية والحداثية من قومية ويسارية وليبرالية تستلهم العرب. وكان غالبية العرب من مسيحيين وسنة وشيعة وغيرهم، منهمكين في مشاريع الاستقلال والتنمية والتحديث والوحدة وغيرها من الطموحات التي تلاشت تماما بعد هزيمة 67. ومنذ هذه الطعنة الموجهة للهوية العربية، عادت إلى الحياة الهويات الطائفية، ولعل أول بوادر ظهورها كانت الحرب الأهلية اللبنانية، والتي هي حرب طائفية بامتياز. زاد من تعميق هذه الطائفية تمخض الثورة الإسلامية في إيران عن دولة شيعية تدعم التشيع في كل مكان، وارتفاع أسعار النفط التي استفادت منه السلفية للإجهاز تماما على كل بقايا التراث السني التقليدي القديم، بدعوى محاربة التقليد والتصوف والعقيدة الأشعرية والبدع والخرافات، وكذلك للتحالف مع الحركات الإسلامية – التي بدأت تتسلم الزعامة في الشوارع العربية منذ الستينات- ودعمها في مختلف الدول.
بعد الهزيمة أمام اسرائيل، وانهيار مشاريع التنمية والوحدة العربية، وجد أهل السنة – من غير القلة الليبرالية وبقايا القوميين واليساريين- أنفسهم إما سلفيين أو حركيين، وجدوا أنفسهم بعد أن حطموا مؤسستهم الدينية، أو على الأقل أضعفوها جدا، محاطين بطوائف متعددة لم تزل مؤسساتها الدينية قوية ومؤثرة في طوائفها، في عالم تزداد فيه حدة الطائفية. وطبعا، لا يعني التركيز على العوامل الداخلية هنا إغفال دور العوامل الخارجية المتمثل بالاستعمار والهيمنة الأوروبية والامريكية فيما بعد، دورها في استحثاث الطائفية، لا سيما بعد احتلال العراق، وإجهاض المشاريع الوحدوية والتنموية العربية. ولكن التركيز على العامل الداخلي يأتي من أجل التمهيد للحديث عن أزمة أهل السنة.
تطرح هذه الأزمة نفسها على أهل السنة بعد فشل القومية، وتشظي العرب إلى مجموعة طوائف لكل منها مؤسساتها الدينية التقليدية التي ما زالت محافظة على قوتها التأثيرية. وفشل التيار السلفي في أن يستوعب كافة أهل السنة، وكذلك فشل الحركات الاسلامية في إيجاد دولة تحقق التنمية والرفاه الذي لم تستطع توفيره دول السلالات والعسكر. تطرح هذه الأزمة نفسها على أهل السنة الذين ارتفعت صيحات معظم علماءهم، كالقرضاوي وغيره، محذرة من عمليات التشييع المنتشرة في معظم المجتمعات السنية. تطرح هذه الأزمة نفسها على صيغة سؤال: في عصر طائفي، تتضاءل فيه الهوية لتتحدد بحدود الطائفة التي يولد فيها الفرد في العالم العربي… كيف يستطيع السني، الذي لا وجود لمؤسسة دينية قوية تدعمه وتهتم به كفرد، كما يحدث بالنسبة لأبناء الطوائف الأخرى… كيف يستطيع هذا السني البقاء والمحافظة على سنيته ومواجهة الطوائف الأخرى أو حتى التوافق معها؟ بمعنى آخر: كيف يحل السني، في هذا العصر الطائفي، اشكالية افتقاره لمؤسسة توحده هو وابناء طائفته؟
في ظل هذه الأزمة تطرح هذه الأطروحة: أن حل هذه الأزمة يكون بإعادة الاعتبار للمؤسسات السنية التقليدية، بتقويتها، والعودة بها كما كانت… كمرجعيات دينية لكل أهل السنة. نجد القبول بهذه الاطروحة: صريحا ومتضمنا. صريحا كما هو عند رضوان السيد أكبر مفكري السنة في لبنان، وأكثر المنتقدين للسلفية والحركيين لاستيلائهم على مكانة المؤسسة الدينية السنية التقليدية. ونجد القبول بهذه الأطروحة متضمنا عند السعوديين الخارجين من ربقة الفكر السلفي، الذين يدعون لبراليين وتنويريين وعصرانيين وأسماء أخرى كثيرة لمجموعة بشرية لا يجمعها سوى اتفاقها على التحلل من الفكر السلفي. ولا توجد علامة على هذا القبول الضمني أكبر من محاولة تصوير التغييرات الأخيرة في هيئة كبار العلماء بوصفها إصلاحا دينيا، كما أسماها “خالد الغنامي” في إحدى مقالاته في جريدة الوطن، وذلك فقط لأنها اتجهت نحو التنويع المذهبي.
ولكن، ألا يعني القبول بهذا الحل، استسلاما لهيمنة الطائفية على العرب، والقبول بها كمعطى واقعي نهائي لا حيدة عنه؟ وألا تعتبر الدعوة لاستعادة المؤسسة الدينية التقليدية، وإن بصيغة منفتحة متصالحة مع العصر كما حلم بها يوما محمد عبده وكما يدعو لها اليوم رضوان السيد، ألا تعتبر في المحصلة النهائية تنازلا عن أهم المكتسبات التي حققها العرب في تاريخهم الحديث المتمثل بتحطيم مؤسسة دينية كانت أحد أهم أسباب تخلفهم في العصر الحديث؟أعتقد أن هذه الأطروحة نتاج عقل ومنطق “طائفي”، يجد شرعيته بالاتكاء على مفاهيم كالواقعية والعملية والتخلص من المثالية والطوباوية. عقل – في حالة كونه متطرفا- يبحث عن خلاص طائفته، أو تسوية عادلة – في حالة كونه معتدلا- لمجموع الطوائف المحيطة به. وهو حين يستغرق في التفكير بهذا المنطق، يغفل أن المشكلة الرئيسية التي تواجه العرب هي هذا المنطق ذاته، الذي يشرعن الطائفية ويكرس وجودها!
لن أناقش ما أعتبره مغالطات كثيرة في المقال لأنني أعتبرها أكبر من التعقيب فهي تحتاج إلى (توظيب).
ولكن سأجيب عن سؤال أزمة أهل السنة وأقول نعم عندما يطرح السؤال بالكيفية التي طرحتها فهو طرح طائفي . . لكن بخصوص الخطر وعدم وجود مؤسسة أجيبك بأنه في الفكر السلفي الحل بولي الأمر المسلم الخاضع للدين والشريعة ومن هنا تستطيع أن تفهم – إن أردت – اهتمام السلفية بولي الأمر وحقه .