عندما يتم إرجاع أسباب الأعمال الإرهابية إلى ثقافة بعينها: إلى الإسلام أو السلفية. ويفسر استمرار الاستبداد وتركزه بإرجاعه إلى الأحاديث النبوية التي تحث على السمع والطاعة، أو إلى تسرب “قيم فارسية” تتمركز حول الطاعة إلى نسق القيم الأخلاقية العربية. أو عندما ينظر إلى التحالفات التبعية السياسية للدول العربية، بأنها نتيجة لعصور من الابتعاد عن عالم السياسة، إن لم نقل لعصور من العيش في حالة “اللادولة”. عندما يقال لنا كل هذا، وبناء عليه تشمّر السواعد عن مشاريع لإصلاح الإسلام أو نقد السلفية، أو تأكيد “سياسية”هذه الاحاديث أو “تاريخيتها”… فنحن هنا أمام تفكير بائس. لأنه ببساطة… يزرع في أرض لا تنبت. والسؤال: ما الذي قاده لهذا الاختيار؟
أعتقد أنه بالإمكان رسم دورة للتغيرات الفكرية للمهتم بالاصلاح من أبناء الجيل الذي أنتمي إليه. فهو يبدأ صحويا، أو دينيا على الأقل. يصر على صحويته، بالقدر الذي يرفض فيه أي حلول “غربية”، يرفض الغرب لأنه الغرب، وإن كان يغلف رفضه بمبررات شرعية عقلية: تبدأ من تحريم التشبه بهم، ولا تنتهي باقتباس نقودات الغرب أنفسهم لتراثهم الحداثي ومفاهيمهم: كنقدهم للديمقراطية، واللبرالية… والاستشراق..إلخ. يرفض الغرب، لأنه لا يستسيغ الأخذ من مستعمره ما يعمره، ومن معيق نهضته ما ينهض به. يرفض الغرب، لأنه يصر على استقلال هويته وفرادتها، وبالتالي كل أخذ من الغرب هو تشويه لهذه الهوية. يرفض الغرب، زاعما التمسك بالأصالة. فهو- على مستوى النظر- رافض جذري للغرب، وإن كان على مستوى العمل يقتبس من هذا الغرب الكثير، معتبرا ما يقتبسه مجرد وسيلة لا يؤثر اقتباسها على الهوية وأصالتها. ومن هذه النقطة يبدأ محاولة إيجاد حلول لمشكلة التخلف التي تحيط به من معين تراثه ومن التجارب السابقة: فالشورى هي النظام السياسي، لكن دون أية تفاصيل. وهناك “نظام اقتصاد اسلامي”، كل الذي استطاعه هو أن يؤسلم بعض المعاملات الرأسمالية، دون أن يمس جوهر النظام…إلخ . وفي سعيه الحثيث للإصلاح، ومع تحول “الصحوة” إلى مجرد أيديولوجيا متشرنقة حول هاجس الأصالة منذ منتصف التسعينات، وتوقفها عن تبني الإصلاح السياسي والاجتماعي: يتبين للواحد منا عقم الصحوة ويبدأ في البحث عن النهضة والاصلاح خارجها، وهنا يقع في إسار التفسير الثقافي.
الجابري، محمد أركون، هشام جعيط، فهمي جدعان، أبو يعرب المرزوقي، طه عبد الرحمن، حسن حنفي، عبد الوهاب المسيري… وغيرهم. كلهم يرفع راية الأصالة، وكلهم يعد بالمعاصرة. فعبر بحوث كثيرة في التراث وفي الفكر الغربي، يجد الواحد منا نفسه مأخوذا، فهو يحافظ على نزعة الأصالة والمحافظة عليها مع تعاط أفضل مع الغرب وفكره: أصبح الآن لا ينتقد السلفية فقط، لكنه أيضا ينتقد الفكر الغربي… مركزيته، ما يفعله نظامه الرأسمالي في الإنسان: يحوسله، ويحوله لإنسان ذو بعد واحد… أداتيّ العقل. وفي نشوة وهم “الاستقلالية” هذا، يقدم المهتم بالاصلاح نفسه على مجتمعه، يقدم استقراره الداخلي في ميزان الاصالة والمعاصرة، على إصلاح مجتمعه والخروج به من الظلم والتبعية والتخلف.
والذي حدث هو أن هؤلاء المفكرين اعتمدوا على المدارس الناقدة للحداثة في الغرب في نقد كل من الحداثة الغربية والتراث الاسلامي. فنقد الحداثة في الغرب هي نقد لما هو موجود وواقع، وبالتالي يصبح النقد مبررا. في حين أن نقد الحداثة في الفكر العربي هو نقد لخيارات، مجرد خيارات فكرية، متهمة بأنها قادت إلى هزيمة 67… سواء كانت قومية أو ماركسية أو غيرها. ونقد التراث الاسلامي، هو نقد للسلفية أو للتيارات والخطابات الاسلامية المسيطرة منذ 67. من هنا لم يترك هؤلاء المفكرون للمتحرر حديثا من ربقة الصحوة أي خيار آخر إلا تبني أساليبهم في تفسير الظواهر وحل المشكلات، ما أسميه هنا بالتفسير فالثقافي. فالفكر الليبرالي أو الماركسي أو القومي: مجرم أو يصور على أنه “قديم” و”مؤدلج”… ويوجه له كل النقد الذي وجه إليه في الغرب. توافق هؤلاء المفكرين على تجريم العلمانية، واستسخاف الفكر الثوري، واستصعاب تحقق الوحدة العربية.. وهكذا لم يجد الواحد منا خيارا غير “التفسير الثقافي”. لم يبقي هؤلاء إلا على الديمقراطية كمطلب ضروري للإصلاح، لكنهم لم يطرحوا أي برنامج أو أجندة خاصة لتحقيقها، بل تركوا الأمر معلقا، بل صرح بعضهم بأنها تأتي لوحدها كـ”ديمقراطية بدون ديمقراطيين”.
التفسير الثقافي لا يطرح حلولا…أو لنقل أنه يطرح أوهام حلول، ذلك لأنه يعيد المشاكل لأسباب غير قابلة للتجاوز. كيف تستطيع تجاوز الارهاب إن كان سببه الفكر السلفي؟ أليس هذا اعتراف بضرورة القمع؟ كيف تحل مشكلة البطالة إذاربطت بأفكار القبيلة؟ ألا يعني هذا أنه لتجاوز الارهاب والبطالة علينا أن نلغي مجتمعنا كله القائم على السلفية والقبيلة؟ وألا يعني استحالة تحقيق مثل هذا الحل، القبول بأبدية وجود هذه المشاكل؟ التفسير الثقافي: بنيوي الطابع، يتعاطى مع المشكلة بمعزل عن التاريخ، وعن سياق السعي للإصلاح، ويفاقم المسافة الفاصلة بين الفكر والواقع، ويؤكد كل ما يقال عن أبراج المثقف العاجية. وفي الحالات التي يتتبع فيها التاريخ، فهو ينظر إليه كتاريخ “ثقافي”: فالفلسفة تلاشت بسبب ضربة قاصمة وجهها إليها الغزالي، وأحد أهم أسباب انحطاطنا تعظيم مرجعية السنة التي ابتدأها الشافعي وأكدها الأشعري ليثبت تكريسها الغزالي مرة أخرى.
هذه الطريقة في التفسير والتفكير، قد تكون حققت بعض الفوائد في زمن العولمة التي صور فيها الصراع على أنه “صراع حضارات”. لكني لا أستطيع أن أقول أنها قدمت أي خطوة للأمام في سبيل الإصلاح أبعد من تلك الخطى التي خطتها الصحوة…