الإشكالية الرئيسية لدى مثقفي البلدان المتخلفة والمتأخرة هي إشكالية نهضة. وتتخذ هذه الإشكالية في بعض الأحيان مسارين اثنين: مسار هوية، ومسار حقوق.
تبدأ إشكالية الهوية بالتشكل عندما يتم استفزازها. واستفزت الهوية في العالم العربي عبر عدة أشكال: إما عبر تدخلات القوى الاستعمارية تحت دعوى رعاية الطوائف والمذاهب التي تعيش تحت مظلة الدولة العثمانية، أو عبر الاستعمار، أو عبر عمليات التحديث السريعة التي نقلت جيلا واحدا من نمط حياة تقليدي إلى أنماط حياة شكلانية التحديث، كما هو حاصل في مجتمعات الخليج. يتم تصوير التحديث الناشئ عن الاستعمار مباشرة أو عن الطفرة في الموارد أو بمجرد كونه مقتبسا من الغرب، يتم تصويره على أنه تغريب مهدد للهوية، وبالتالي مهدد للوجود.
ويصبح دور المدافع عن الهوية مقاومة هذا التحديث بعد التمييز بين ما يؤثر منه على الهوية وما لا يؤثر. وكذلك يتم اتهام كل المروجين لأفكار مقتبسة من الغرب بأنهم مهددون للهوية… وكلما يزداد ضغط السياسات الغربية تزداد إشكالية الهوية إلحاحا، ويزداد المدافعون عن الهوية انكفاء وتصلبا وتشككا من أي وافد أو دخيل. يبرز المدافع عن الهوية الكثير من الموروث ويواجه بالحديث، ويسقط الكثير من الحديث على الماضي ويعيد اكتشافه هناك. فالشورى هي الديموقراطية، والكثير من مكتشفات العلم الحديث موجودة في القرآن، و «الطب النووي» إرهاص للطب الحديث…إلخ.
التشكيك في الهوية يصبح محرما، وأي نقاش حول الماضي أو نقد للصورة النمطية التي تتشكل منها الهوية مرفوض، ومن يفعل ذلك متهم في دوافعه وغاياته. يصل الأمر بهذا المدافع إلى مرحلة يعطي فيها قضايا مؤقتة أو لا تنعكس بصورة مباشرة على الإشكالية الرئيسية: النهضة، يعطيها هذا المدافع أهمية كبيرة تحت دعوى تهديدها للهوية.
الدفاع عن الهوية أمر مطلوب، خصوصا في ظل التشويه الذي مارسه الاستشراق وتمارسه وسائل الإعلام بشكل يومي. لكن هناك دوما فارق بين المحاماة عن الهوية وتقديسها، وهناك فرق بين إزالة التشويه الذي يمارس عليها، وبين رفعها عن النواقص والاخطاء. عادة ما يتم الرجوع للتراث الاسلامي لبناء الهوية، وغالبا ما يتم رفض الاعتراف بأي هوية أخرى تنطلق من التراث نفسه، رغم أنه كان فعليا تراثا متنوعا ومتعددا… فلماذا يبنى عليه هوية واحدة لا تسمح بالتعدد؟
أما إشكالية الحقوق فتبدأ من الوعي بفقدها، فأنت لا تشعر بنقص ما لست مدركا أنه من حقك. والوعي بفقدها يتشكل عبر المقارنة: لماذا يحظى ذاك وأنا لا أحظى رغم اشتراكنا؟ وفي غالبية العالم العربي الحقوق مهدرة… وكلما زادت الفجوة الطبقية في المجتمعات، وقلت رفاهية الطبقات الوسطى، تركز الوعي بإشكالية الحقوق. والمشكلة تكمن بالمطالبة بها: لا قنوات سلمية، ولا قوى ضغط متعاضدة. والسبب في هذه الأخيرة يعود لاختلاف القوى والجماعات إلى تيارات في مسألة الهوية. وهنا بالذات يتقاطع المساران ويصبح السؤال: أيهما أولى الدفاع عن الحقوق مع المختلفين عني؟ أو الدفاع عن الهوية ضدا على المختلفين معي؟أعتقد أن المشكلة ليست في البحث عن إجابة على هذا السؤال بقدر ما يكون إعادة النظر في الأسس التي انبنى عليها: هل الاختلاف على الهوية ناتج عن تقديس لتصور معين لها عند طرف من الأطراف؟ وهل مشكلة الهوية مشكلة فردية أم اجتماعية؟ بمعنى هل هي محصورة بالحيز الخاص للفرد أم أنها مدرجة ضمن حيزه العام؟ وانطلاقا من الإجابة على هذا الأخير نستطيع تبين الأساس الذي يفترض بالتجمع أن ينبني عليه، هل هو تجمع مبني على هوية مشتركة أم هو تجمع مبني على مطالب مشتركة؟لعل أسبقية إشكالية الهوية على إشكالية الحقوق، انعكاس لأسبقية الاستعمار على استقلال الدول العربية وتكونها… ويمكن إرجاع التناوب بينهما لمدى تكثيف التأثير الغربي المهدد للهوية، ولمدى تفاوت الطبقات عن بعضها.
ومن هنا تكون أحد أهم مسؤوليات المثقف هو تكثيف نقد الهويات الصنمية في الوقت نفسه الذي عليه أن يعد جدول عمل يكفل للمطالبين بالحقوق سبلا لتحقيقها..