إن كان عبد الرحمن الوابلي –وكما شرحنا ذلك بالتفصيل الاسبوع الماضي- قدم لنا تفسيرا لنشوء ثقافة ما أسماها بالبلدات القبلية. تلك الثقافة التي بسبب نشوءها في بيئة مجدبة تميزت بالاحادية والحدية والتصلب اتجاه كل جديد وآخر، ثقافة تقوم على الإعلاء من شأن الأنا، وأن لا شيء فوقها، ثقافة تقسم البشر طبقيا بحسب أصولهم ومذاهبهم وتضع نفسها في قمة هذا الهرم الطبقي. إن كان الوابلي قد فعل ذلك، فإنه لم يقل الكثير بخصوص أسباب استمرارها رغم انتقال نجد والجزيرة العربية، بسبب توحيد البلاد على يد الملك عبد العزيز وبسبب اكتشاف النفط، إلى مرحلة اقتصادية تتعاظم فيه الواردات. فهو قد ربط نشوءها بشكل أساسي بإدراة الفقر وقلة الموارد التي كانت تعاني منه تلك البلدات: فلماذا استمرت هذه الثقافة، رغم تحول البلاد إلى بلاد ذات وفرة في الموارد مع اكتشاف النفط؟ لا نجد جواب هذا السؤال عند عبد الرحمن الوابلي، بل نجده عند محمد بن صنيتان. الذي يجعل مصلحة حضر نجد، هي المحرض الذي يدفعهم للحفاظ على هذه الثقافة لما تدره عليهم من خيرات وامتيازات طبقية.
في كتابه “السعودية: السياسي والقبيلة”… يبدأ بقسم طويل يتحدث فيه عن مواريث المجتمع السعودي. فيبدأ بميراث الاسلام والعروبة، ثم يعقبه بميراث البداوة، الذ يبدأه بقوله: “البداوة هي إحدى السمات الثابتة للجزيرة العربية، بل إنها السمة التي بها فحسب تعرف…”. ثم يتحدث بكثير من التفصيل عن العصبية وعادات البدو والقضاء عندهم وأنظمة العقوبات. وأثناء هذا المسح الانثروبولوجي يشير بن صنيتان لظاهرة التقسيم القبلي للعمل، فالبدو والأسر الحسيبة في القرى النجدية تأنف من الأعمال اليدوية، ومن هنا تشكلت أسر يسميها الكاتب “الأسر الحرفية” لتسد هذه الحاجة. وعن موقع الأسر الحسيبة بين البدو والاسر الحرفية يقول بن صنيتان: “تتباعد الاسر الحسيبة من أهل نجد عن المحترفة، وتتقارب من القبائل البدوية في مسائل الزواج والافتخار بالنسب القبلي. وفي الوقت نفسه تتقارب من الاسر الحرفية وتتباعد عن القبائل البدوية في مجال السكن والتعايش اليومي وعواطف الجوار والثقافة…”.
ونتيجة هذا التقسيم القبلي للعمل والعلاقات الاجتماعية نشأت ما اسماها الكاتب “عقدة النسب” عند كل من الاسر الحسيبة والاسر الحرفية. فالأخيرة التي كانت من الممكن أن تكون “نواة لمجتمع مدني في نجد يقلل من غلو المجتمع القبلي العائلي، حيث بعض مناطق المملكة لا تعرف هذا التقسيم العرقي الطبقي معا، إلا أنه من المؤسف أن بعض الاغنياء وذوي المكانة العلمية والوظيفية منهم أصابتهم عدوى النسب والبحث عنه في شتى الطرق مهما ارتفع ثمنه عندما يتوج هذا النسب بصك شرعي أو شهادة شيخ قبيلة، أو قصيدة شعبية من الباعة على الرصيف، وقد لا يتورعون من انتحال الاسم إذا تصادفت تشابه الأسماء والألقاب…”. كما أحدثت “عقدة النسب صدمة نفسية عند حتى عند القبيليين منهم فما أن يقابلك أحدهم إلا ويبدأ بذكر نسبه حتى قبل السلام. والمتوقع ان الدين والتعليم واتساع الثقافة وزيادة الوعي وكثرة الاختلاط في العالم الواسع يقلل من ظاهرة الانتماء والانساب. إلا أن الذي حصل هو العكس، وكأن التحضر والوعي الحقيقي والاعتبار للانسان وعمله لا يعملان في هذه البيئة القاحلة والمصابة بالقحط الثقافي والجاهل، ما يؤكد تعطيل مفاهيم الدين الإسلامي الذي يدعون خصوصيته والانفراد به. بل الأنساب هي ثقافتهم وشعيرتهم السلوكية وليست لهم ثقافة وسلوك ثان.”. يتابع بن صنيتان نقده القاسي لهذه العوائل النجدية: “أدت هذه الانغلاقية إلى النظرة الفوقية، وامتدت إلى اقصاء الآخر… بل تطورت إلى النظرة المذهبية الفوقية ما عمم التشكيك بالوطنية، واحتكرت الوطنية في القلة من السكان والجغرافيا”.
بعد ذلك ينتقل بن صنيتان في القسم التالي ليؤكد على الدور الأساسي والجوهري الذي لعبته قبائل البدو في المشاركة بالتوحيد، خصوصا عبر مؤسسة الاخوان. وهو يرجع تشديده في التأكيد على هذا الدور لما جرى عليه من تعمية وتهميش من قبل الأسر النجدية الحسيبة التي جيرت كل ثمرات التوحيد لصالحها، ولا تذكر الأخوان إلا في معركة السبلة، المعركة التي خاضها الملك عبد العزيز مع بعض الوحدات المتمردة من الاخوان. يعيد بن صنيتان قراءة هذه المعركة من جديد، ويقوم بتوضيح كيف أصبحت هذه المعركة المنفذ الذي نفذت من خلاله الاسر النجدية الحسيبة لنشر تلك الثقافة القبلية المناطقية التي لمسنا اشتراكا في توصيفها بين الوابلي وبن صينتان.
يتابع بن صنيتان رصده لهذه الاقليمية والطبقية في عدة مجالات. منها على سبيل المثال، تقسيم المحافظات، فتجعل القرية الحضرية: محافظة، في حين القرية البدوية التي تفوقها عددا لا تكون إلا مركزا تابعا لهذه المحافظة. ويتابعها كذلك في توزيع المناصب إذ تلعب الاقليمية دورا بارزا فيها. ويرجع ظواهر العنف والارهاب التي شهدتها البلاد، منذ السبلة مرورا بحادثة الحرم انتهاء إلى الحوادث الأخيرة إلى ثقافة هؤلاء الحضر، حضر نجد.قد تزداد حدة بن صنيتان في مواضع متعددة من كتابه، وقد يفقد حياده، وقد يتحامل على أهل نجد. لكن هذا لا يمنع أنه قدم في كتابه هذا مقاربة علمية، تسمح لنا برؤية أوضح لجذور العصبية والانغلاق المنتشر في كل مكان حولنا.