لعل من أهم الأبعاد التي تجلى فيها فشل الصحوة الإسلامية، هو البعد الأخلاقي. فبقدر ما تركز على المظاهر، بقدر ما تهمل المعاني. والسؤال الذي يجب البحث عن إجابة عليه، هو التالي: لماذا نجد الكثير من أبناء الجيل الذي تربى في الثمانينات والتسعينات، في أوج طغيان الصحوة واستحواذها على كافة مؤسسات صناعة الوعي والتربية، ابتداء من المسجد وانتهاء بالمدرسة: متصلبي العقيدة لكنهم من الناحية الخلقية أقرب إلى التهتك؟
طبعا أنا لا أقصد الملتزمين منهم، بل يتركز اهتمامي على الأفراد الذين كانوا موضوعا لخطاب الصحوة، واستطاعت تشكيل وعيهم الايديولوجي بنجاح: فهم يؤمنون بالولاء والبراء، ويتهيبون نقد العلماء، ويناصبون الشيعة والعلمانيين والحداثيين والعقلانيين العداء.. حتى وإن لم يعرفوا عنها أو يفهموا منها شيئا… إلخ هذه المفاهيم الصحوية الجوهرية. بالمقابل، وعلى الرغم من الحرب الشديدة التي شنها الصحويون على العديد من السلوكيات، كالسفر من أجل الزنا والخمر، وسماع الاغاني، والشذوذ، والكذب، والعنف الاسري، واسبال الثياب، التدخين، الاختلاط، كشف وجه المرأة… وغيرها الكثير. السلوكيات التي، على اختلاف درجاتها، إلا أنها لم تستطع الحد منها أو إلغاءها. وما أطرحه أنا هو أن الأسلوب الذي قامت به الصحوة بتقويم هذه السلوكيات ومحاربتها، قد أدى إلى مفاقمة هذه السلوكيات والتسبب بانتشارها أكثر…
فالخطاب الصحوي قام بخطأين أساسين في تعامله مع كل ما رأى ضرورة محاربته أو ضرورة الالتزام به، كالتقيد بصلاة الجماعة وإطلاق اللحية وغيرها. أول هذه الأخطاء هو تصنيف هذه السلوكيات بمختلف أنواعها ومستوياتها في خانتين اثنتين فقط: “المحرم” و”الواجب”. وقد أدى توسيع دائرتي المحرم والواجب إلى تضييق دائرتي المكروه والمندوب، انطلاقا من احتمالية تهاون الناس مع هذين الحكمين. فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة: تزايد قائمة المحرمات والوجبات، وتساويها من حيث كونها محرمات ووجبات، وبالتالي أصبح احتمال تهاوي “هيبة” ارتكاب المحرم والامتناع عن الواجب في نفس الفرد أكبر. ومن هنا، وبمجرد تهاوي هذه الهيبة، تتساوى لدى الفرد كافة المحرمات، فإن كان التدخين حرام، فالخمر مثله، ومن هنا ما الذي يمنع هذا المدخن من معاقرة الخمر؟ وهكذا، قاد خوف الصحوة من تهاون الناس مع أحكام المندوب والمكروه، إلى مرحلة أخطر وهي سهولة تهاوي هيبة كافة المحرمات والواجبات. ولعل الحفاظ على هذه الهيبة، هو الحكمة من أحكام الندب والكراهية. كما أن الحكم على سلوك ما أنه مندوب وآخر أنه مكروه، يفتح الباب أمام التعاطي الفعلي مع هذه السلوكيات كواقع. فمكافحة التدخين بالتوعية وبطرح الحلول مع التأكيد على أنه، في أقصى حالاته، يعتبر مكروها. هذا النوع من المكافحة يجعل مواجهة المشاكل أكثر عملية، وبالتالي أكثر اعترافا بها كمشاكل… في حين أن الاكتفاء بالتحريم أشبه ما يكون بسلوك النعامة التي تدس رأسها في الأرض، ويزيد عليه بأنه يفسح المجال لسقوط هيبة محرمات أخرى. فالناس لا تمتنع عن سلوك محدد، بمجرد تذكيرها بحرمة هذا السلوك، بل هي تمتنع عنه عندما يتم توعيتها وإرشادها والعمل الدؤوب على مكافحة هذا السلوك.
الخطأ الثاني الذي قامت به الصحوة هو مساواتها بين صغائر الذنوب وكبائرها. وليس هذا فقط، بل تركز اهتمامها على قضايا تعتبر، في أقصى حالاتها، من الصغائر وأعطتها زخما أكثر بكثير من الكبائر نفسها. فطقوس العبور التي يمر خلالها الفرد من كونه “عاصي” إلى “ملتزم” تتمثل بالتخلص من مجموعة من السلوكيات لا تتجاوز كونها صغائر أو مكروهة كاعفاء اللحية وتقصير الثوب والامتناع عن سماع الاغاني وغيرها. وكذلك القضايا التي نرى الخطاب الصحوي يطرح نفسه مدافعا عنها، تتمثل كلها بقضايا لا تعتبر من الكبائر، بل في بعض الاحيان لا تعتبر ذنوبا أصلا… وعلى سبيل المثال: الاختلاط، قيادة المرأة للسيارة، كشف وجه المرأة… إلخ. وهذا الاهتمام الذي تحظى به هذه القضايا في خطاب الصحوة، والذي يتفوق بكثير على قضايا الكذب والظلم والغيبة والفساد واكل الاموال بالباطل، يفضح المصالح الحقيقية التي يسعى هذا الخطاب للدفاع عنها.
ما ننتقده هنا هو آليات المعالجة الاخلاقية لسلوك البشر في الخطاب الصحوي، وهذا الانتقاد طبعا يلقى جانبا من الضوء فقط حول تنامي ظواهر التهتك الاخلاقي. ولكنه، قطعا، لا يقول أن سبب هذه الظواهر هي الصحوة، بل هي ظواهر معقدة تتداخل فيها عدة عوامل.