يموت طفل كل خمسة ثواني من الجوع. وحوالي 852 مليون إنسان يتضور جوعا على هذا الكوكب، أي انسان من بين كل ستة. وبسبب الجوع، ونقص فيتامين أ، يصاب بالعمى انسان كل اربع ثواني. ويوميا يموت 100 ألف إنسان. وهذا كله لا يعود لأسباب فوق طاقة البشر، بل يعود حصرا بسبب “جشع” البشر، فالأرض قادرة على اشباع 12 مليار نسمة، أي ضعف عدد البشر الأحياء. هي عملية “اغتيال” منظم ومهيكل، كما يؤكد أحد أهم المدافعين عن “الحق في الغذاء” السويسري جون زيغلر. لماذا هذا الحديث عن الجوع والجوعى؟ الجواب: لأنه رمضان…
ماذا يعني أن تتضور وتموت جوعا؟ طرح هذا السؤال أول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، بعد الكثير الكثير من المجاعات التي حدثت في أوروبا، في السجون والمعتقلات وفي المدن المحاصرة. بعد تحرير أوروبا…طرح السؤال بالشكل التالي: كيف يمكن تغذية هؤلاء الأوروبيين المحررين الذين أنهكتهم الحرب؟ كان لا بد من إجراء تجربة لمعرفة الجواب، وهذا الذي قام به البروفسور أنسيل كيز في جامعة مينيسوتا. ففي عام 1945 استقبل هذا البروفسور 36 متطوعا، غالبيتهم من المناهضين للحرب والرافضين لها، في مركز أبحاثه ليجري عليهم “تجربة الجوع”. مدة التجربة كانت سنة: ثلاثة أشهر يتم فيها تعديل أوزان المتطوعين للحد المثالي، ثم ستة أشهر من “التجويع التجريبي” يخضع فيها المتطوعين لنفس الظروف التي خضع لها الأوروبيين في المعتقلات، ثم ثلاثة أشهر أخيرة يعاد فيها تأهيلهم.
مع بداية تلك الأشهر الستة التجويعية، بدأت تظهر بعض السلوكيات العدائية والاستئثارية وقلة الصبر، ولم تمر أسابيع قليلة حتى بدأ الجميع بأكل أي شيء يوضع أمامهم ولعق صحونهم بعد الإنتهاء منها. شيئا فشيئا بدأت تتغير أشكالهم: نحول الوجه، بروز عظام الوجنتين، رقاب هزيلة… تقلصت الأكتاف وأصبحت عظام الترقوة حادة وبرزت أضلاع الصدر… وكالعقد أصبح شكل العمود الفقري، وكالعيدان أصبحت السيقان التي انتفخت فيها الركب. أصبحت أشكالهم واهنة جدا، وتعلو محياهم نظرة شاحبة لا تحمل أي معنى. الجوع أضعف في المتطوعين نهمهم المعرفي، واهتماماتهم العاطفية والجنسية. ومن شدة الجوع أصبحوا يشعرون بالبرد حتى في أشد الأوقات حرارة. ضعف تركيزهم في أنفسهم، وأصبحت الأشياء ثقيلة جدا. تقلصت أحجام قلوبهم، وذهبت حمرة دمائهم… وأصبح سمعهم مرهفا جدا مما جعل الأصوات العادية مزعجة بالنسبة لهم. وعلى المستوى النفسي: ازدادت معدلات الاكتئاب والوسواس المرضي والهستيريا، وازدادت معدلات الأوهام والانعزال. كل هذا العذاب وهي تجربة يعلم متطوعوها يقينا أنها ستنتهي في موعد محدد. يا ترى كيف سيكون الأمر في الحالات الحقيقة: عندما يضاف لهذا العذاب اليومي الرعب الذي يسببه انتشار رائحة الموت في أرجاء تلك المجاعات؟
حتى تحس بالآخر، لا بد أن تشعر بما يشعر… هذا الدرس الذي يفترض أن يعلمنا إياه رمضان، الذي “نختار” فيه الجوع تعبدا. أن نشعر بما يشعر به الجوعى دافع لأن نساعدهم، أن نفهم أي نعمة عظيمة هذه التي يكون فيه الجوع “اختيارا”، أن ما نشعر به في شهر، يعاني منه آخرون كل يوم، بل يموتون منه كل ثانية. هذا ما يفترض في رمضان أن يكونه، كابح سنوي لهذا الجنون الرأسمالي الذي يعصف بهذا الكوكب. لكن الواقع لا يعكس لنا أي شيء من هذا “المفترض”، فرمضان نفسه “ترسمل”، تحول من موسم “الجوع والبذل”، إلى أحد أهم مواسم الاستهلاك والطبخ والأكل والموائد الممتدة. فيه تزداد معدلات الصرف، درجة أن بعض الشركات تصرف “راتبين” لموظفيها في هذا الشهر. رمضان، كواقع، كف عن كونه شهر مراجعة وعودة للنفس، بل هو الموسم الفني الأكبر للكم الهائل من المسلسلات والبرامج. هذه هي الرأسمالية بأبشع صورها: نزع قيمة الشيء، وتحويله لسلعة في خدمة السوق… وفي حالة رمضان: تحويله لموسم التسوق الأعظم في حياة المسلمين.
إن رمضان هو تذكير لكل واحد منا، بأن هناك من يموت جوعا. وأنه يموت جوعا، ليس لأنه لا يجد ما يأكله، بل لأن هناك من يحرمه، ويزداد غنى كلما تفنن في حرمانه. وأن تعرف، هذا يعني أن تكون مسؤولا. ولا أعلم كيف يستطيع أن ينام قرير العين من تكفي قمامته وحدها لسد جوع المئات من البشر!
كل عام وأنتم بخير…