كيف تستمر الاشياء؟ ببساطة عندما تتحول إلى “صناعة”، وبالتالي يبدأ تغييرها من تغيير المؤسسات التي تروج لهذه الصناعة. لنوضح بالتفصيل ماذا نقصد بمفهوم الصناعة وتغيير مؤسساتها.
على سبيل المثال، في مجتمع كمجتمعنا الذي يتبنى رأيا فقهيا محددا بخصوص غطاء المرأة. بعض الذين يختلفون فقهيا مع هذا الرأي على أساس أن هناك ما هو أرجح منه أو الآخرين الذين يرون فيه تخلفا، هؤلاء جميعهم يكتفون فقط بتوضيح وجهة نظرهم، معتقدين أن مجرد الاكتفاء بالتوضيح النظري سيقود المجتمع للوجهة التي يرونها “صحيحة”، وأن مهمتهم كلها تنتهي بمجرد ذلك التوضيح. ماذا يهمش هؤلاء؟ هم يهمشون بالضبط القوى التي أصبح من مصلحتها بقاء هذا الرأي، والتي باستمرار وجودها لا يصبح لتوضيحات هؤلاء أي معنى… لا أقصد فقط الفقهاء التقليديين، أولئك الذين يكسبون وجاهة أمام مجتمعهم بالتشدد في مثل هذه الآراء، بل حتى تجار العباءات، فهؤلاء أصبح رزقهم مقترن تماما مع استمرار دعم هذا الرأي… هكذا يتحول الرأي الفقهي إلى “صناعة”، تغييره يبدأ بتقويض مؤسساته، البنية التحتية التي لديها مصالح متعددة من بقاءه. هذا هو المقصود بالصناعة.
هناك صناعات تقوم على تلبية حاجات ضرورية للإنسان. الإنسان يمرض فمن الضروري أن تنشأ صناعة لعلاجه، وهي تلك المستشفيات ومعاهد الأبحاث والكليات الصحية المتخصصة بعلاج الإنسان. وهكذا الأمر بخصوص صناعة الغذاء والأمن وغيرها. هذه الصناعات قد يتخللها فساد واستغلال ومشاكل، لكن هذه كلها لا يمكن أن تبرر إلغاء الصناعة نفسها. بالمقابل، هناك صناعات تنشأ انطلاقا من أيديولوجات معينة أو انطلاقا من عادات قائمة، فتكرس بذلك بقاءها واستمرارها. فالوثنية بالنسبة لقريش لم تكن مجرد ديانة بل كانت صناعة، يعتمد عليها بقاء قريش، هذا يفسر التسامح الشديد الذي تظهره قريش أمام جميع أنواع الأصنام التي كانت تحيط بالكعبة، فكل صنم، ولو لم تكن تعبده، سيعزز من قيمة موسم الحج وسيزيد عدد القبائل الوافدة إليها. ومن هنا كان “التوحيد” الذي جاء به الإسلام يمثل تهديدا رئيسيا، ليس على المستوى العقائدي فقط، بقدر ما هو تهديد على مستوى الحياة والمعيشة والرزق… فمكة ليست أرضا زراعية، ولا صناعية، ولا ساحلية، بل هي مدينة دينية، يقوم رزقها على الحج وصناعته، وبالتالي يصبح من الطبيعي رفض أي دعوة تهدد هذه الصناعة. هذا نموذج على صناعة قامت على أيديولوجيا، اضطر الرسول من أجل إزالتها مهاجمة هذه الصناعة نفسها. ابتداء من مهاجمة القوافل وتهديد أمن مكة ونشر الاسلام لدى القبائل الأخرى؛ انتهاء بفتح مكة، وتحطيم الأصنام ومنع المشركين من دخولها.
أظن أنني وضحت بالتفصيل ما أقصده بالصناعة، لننتقل الآن للتخلف. التخلف ليس مجرد التأخر عن اللحاق بالآخرين، بل هو “العجز” عن اللحاق بهم. هذا العجز ليس تلك المشكلة الكبرى، لكن استمراره هو تلك المشكلة. واستمراره لا يعني شيئا سوى تحوله لصناعة قائمة هناك من يستفيد من استمرارها وبقائها. سأضرب مثالا واحدا أوضح فيه كيف تتم إعادة انتاج التخلف.
يعاد إنتاج التخلف عندما تتحول القوى التي يفترض أن تكون قوى تقدم إلى قوى تخلف. الجامعة واحدة من تلك القوى التي تحولت وظيفتها إلى قوة تخلف. ففي جامعة كجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، يقيّم الطلاب بناء على المعدل التراكمي. في أغلب المواد، يتم تخصيص 20-30% من المجموع للواجبات المنزلية والتقارير، وهذه النسبة يستطيع الطالب تحصيلها ببساطة عن طريق الغش، أي نقل الواجبات والتقارير المحلولة في فصول سابقة. ويخصص حوالي الستين بالمائة للامتحانات، وهذه الامتحانات: امتحانات مكررة، يحرص على أن تكون مكررة كل من الطالب والدكتور، الطالب لأنه يكتفي بحفظ أجوبة العام الماضي، والدكتور لأن في ذلك راحة له. هذا التواطؤ الصامت الذي يحدث في قاعات المحاضرات، يجعل مجموعة كبيرة من الطلاب تحصل على معدلات عالية لا تعكس قدراتهم وكفاءاتهم العلمية الحقيقية، بقدر ما تعكس احترافهم للغش والسلوك الغير الأخلاقي الذي تحول إلى ثقافة تملأ الشبكة الداخلية للجامعة وصناعة تسترزق منها محلات خدمات الطلاب المحيطة بها. هكذا، وخلال خمس سنوات كاملة، يعيش الطالب في هذا الجو البعيد عن التنافس الشريف والأخلاقي، الجو البعيد عن تحفيز الخلق والابداع. من هنا يبدأ إعادة انتاج التخلف، ولا يقف عند هذا الحد… بل تأتي الشركات الكبرى لتشترط معدلا محددا لقبول الطلاب، بل حتى شروط الابتعاث تحدد مثل هذا المعدل، مفترضة أن هذا المعدل يعكس فعلا ما يقوله من أن هذا الطالب متفوق ومتميز.
هذا مثال يوضح بالتفصيل كيف تتم إعادة انتاج التخلف، ويوضح أن كل الكلام النظري الذي يستهدف النهضة والتقدم، يظل حبرا على ورق، طالما لم يتم توجيهه مباشرة إلى هذه الصناعات التي تعيد إنتاج التخلف وتستفيد من استمراره، وكذلك قرنه بالعمل على تقويضها وإزالتها. هذا ما أعتقد أنه دور المثقف النهضوي الحقيقي.