في كتاب طرابيشي الأخير “هرطقات 2”: مطالبة بالعلمانية، وهي مطالبة أحاطها صاحبها بكثير من المبررات والأسباب. وهو يفعل ذلك بكيفية ينتقد فيها “المكتفين بالديمقراطية” من الحداثيين، أمثال محمد الجابري، ومن يدعوهم بـ”القداميين” الرافضين لا للعلمانية فقط، بل لغالبية مفاهيم الحداثة. قبل أن أبدأ بانتقاد “دواء” طرابيشي، علي أولا أن أضعه في سياقه الذي أفهمه.
هناك مسلمة أساسية تقول: أن العالم الإسلامي، والعالم العربي بشكل خاص، مهيأ بسهولة لحروب أهلية، لانقسامات متنوعة، هو أشبه بصندوق بارود متحفز للانفجار في أي لحظة. وذلك بسبب التنوع الطائفي والعرقي والديني الذي يكتظ به، والعامل الوحيد الذي يمنع هذه الحروب هو الأنظمة المستبدة والقمعية، ولكن هذه بالمقابل تنتهك حقوق الانسان وتمارس الجرائم، فالسؤال: كيف السبيل للخروج من الاستبداد والقمع دون إيقاظ مارد العنف المستلقي على صدر هذا العالم الإسلامي؟
إبان الحرب الباردة، كان الغرب لا يهتم عمليا في الإجابة على هذا السؤال، بل يكفيه أن يكسب “ولاء” حكومات تلك البلدان، ويبعدها عن المحور السوفييتي، مقابل أن يغض الطرف عن ما تقترفه يوميا بحق شعوبها. لكن هذا الوضع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تغير، وهو تغير أكثر بعد 11 سبتمبر، إذ أن الغرب، خصوصا أمريكا، باتت ترى أن “شرور” العالم الإسلامي بدأت تطيح بعمارات في نيويورك. فكان الاقتراح النيوليبرالي الذي روج له المحافظون الجدد هو كلمة واحدة: الديمقراطية. تم تصوير الديمقراطية، كدواء لمجموعة أدواء: للإرهاب، للطائفية، للاستبداد. وفعلا، تم “تجريب” هذا الحل بـ “دم بارد”، أشبه ما يكون بالتجريب المخبري، تم تجريبه لا لشيء إلا ليثبت فشله: فالارهاب تعاظم، والطائفية أصبحت حياة نمطية، والدولة لا حيلة لها ولا سلطان.
في هذا السياق وحده يطرح طرابيشي العلمانية كحل، فبدونها الديمقراطية تتحول لآلية شكلية، لا تحل شيئا… تغيير في صندوق الاقتراع، لا في رؤوس المقترعين. وهو لا يطالب بها من منطلق أقلوي، كما يستغل بعض الاسلاميين ذلك انطلاقا من كونه مسيحيا، بل يطالب بها بوصفه باحثا عن حل لإشكاليتين كبيرتين تعصف بالعالم العربي: الطائفية، والتخلف… ويزعم أن هذا الحل هو العلمانية، مقدما تبريرات تاريخية طويلة وكثيفة جدا.
وبغض النظر عن التفاصيل الكثيرة التي يقدمها طرابيشي، لنطرح السؤال التالي: لا نختلف في أن كون مطلبا ما ملائما لأقلية فإنه –من ناحية المبدأ- لابد أن يكون ملائما لغيرها، ولا معنى من حصر مطلبا ما بأقلية بعينها إلا لإخفاء غايات أيديولوجية من واء هذا الحصر. لكن ما نختلف معه هو كون مطلب العلمانية هو حل للطائفية.
لنتسائل: هل العلمانية لم تنجب عنفا؟ ألم تقتتل أوروبا والعالم ثلاث مرات في حروب تسمى “حروبا عالمية”؟ ألم ينتج الاستعمار عن دول علمانية؟ ألم تنجب العلمانية أعظم عمليتي تطهير عرقي وإبادة شمولية شهدها القرن العشرين: أيام هتلر وأيام ميلوسوفيتش؟ بل أشد من ذلك: ألم تولد العلمانية توأما للعنف؟ أقصد الثورة الفرنسية وفترة الارهاب التي أعقبته؟ وألا تعتبر التفجيرات الأخيرة في تركيا أعمالا إرهابية “علمانية” لرفض نظام منتخب تهمته الوحيدة: الإسلام؟ بل أبعد من ذلك: ألا يعتبر تصدير نموذج الدولة القومية- كما يثبت ذلك جورج قرم في “أوروبا والمشرق العربي”- إلى أوروبا الشرقية والمشرق العربي، بما صاحبه من إيقاظ للقوميات وتسييس لهويات لم تكن مسيسة أيام الامبراطوريات الكبرى… ألا يعتبر هذا التصدير هو العامل الحاسم الأكبر لتحول التجمع الطائفي من تجمع مبني على مجموعة مصالح وأرزاق يجنيها الفرد من الارتباط بعشيرته أو طائفته، إلى تجمع مبني على “أيديولوجيا” تمد الفرد بكافة التصورات التي تبرر له تفوقه وأفضليته على غيره من أبناء الطوائف الأخرى.
العلمانية ليست مولودا بكرا. بل مفهوم له تاريخ ليس بالقصير. ولذلك أعتقد أنه على طرابيشي وغيره أن يجيبوا عن هذه الاشكاليات التي تفرض نفسها على كل مطلع لتاريخ العلمانية والحداثة عموما، فهذا التاريخ كان يسير جنبا إلى جنب مع العنف الذي يصل أحيانا لمستويات لم يصل إليها- على حد علمي- في التاريخ.
هل الحل إذن هو الخيار الإسلامي؟ تاريخ الحروب الدينية والثبت التاريخي الذي ثبته طرابيشي عن حجم “الكره والبغض المتبادل”- بل الاقتتال- بين الطوائف يبعد هذا الخيار أيضا بعيدا. يبقى السؤال: ما الحل إذن؟ من وجهة نظر مبدئية وأساسية أرى أن الحلول لا تكون ناجعة إذا كانت الاشكاليات مزيفة، والسؤال عن هوية المجتمع: أعلمانية تكون أم دينية، هو في النهاية سؤال عن الهوية… في حين أن السؤال من وجهة نظري هو سؤال الحقوق والواجبات، مدى توفرها ومدى تكفل القانون والدولة بحمايتها، هنا –بغض النظر عن هوية الدولة- تكون الخطوات الأولى لحل مشكلتي الطائفية والتأخر.