في المجتمع تيار ليبرالي، هذه قضية لم تعد في رأيي تحتمل الشك. نعم، نختلف في مدى التزام هذا التيار، مدى صدقه، بل أكثر من ذلك: مدى فهمه لليبرالية… لكن كل هذا لا يلغي أن هناك ثم تيارا يتبنى مقولات ليبرالية، وهو ليس تيارا نخبويا، بقدر ما هو تيار يقترب من أن يكون شعبيا. ومن يعرف الليبرالية، يعرف أن القيمة الأساسية والمحورية فيها هي “الحرية” والمطالبة بها. والدندنة حول الحرية، والاستقواء بها، والانطلاق من سلطتها، هي أجزاء أساسية من بناء الخطاب الليبرالي عموما، وعندنا خصوصا، بل وصلت المزايدة على هذه القيمة بأن كتب عبد الله المطيري في جريدة الوطن مقالا بعنوان “الحرية كشرط للإصلاح”، ويتضح من عنوان هذه المقالة المكانة العزيزة التي تحتلها “الحرية”. كل ما ستتحدث عنه هذه المقالة هو: هل هذه المطالبة بالحرية تنطلق من وعي وفهم كاف لها؟ولمعرفة الإجابة على هذا السؤال لابد من تفحص أشهر مقولتين ترتبط بهما الحرية: المقولة الأولى وهي أن الإبداع وبناء الشخصية المستقلة النقدية لا يمكن أن ينشأ إلا في وسط حر. والمقولة الثانية، أن المطالبة بالديمقراطية، تعني بالضرورة مطالبة بالحرية، فالديمقراطية ليست شيئا سوى الحرية. هذه المقولات التي تربط بين الإبداع والديمقراطية من جهة والحرية من جهة أخرى ربطا عضويا، هي المقولات التي تضفي على المطالبة بالحرية مشروعية تكاد تكون مقدسة.
وللأسف، فالتاريخ ينبئنا بما يعاكس ويخالف هذه المقولات. فهناك حكومات ديمقراطية قد قامت لكنها لم تكن ليبرالية (كديمقراطية آثينا). وكما يقول عزمي بشارة- في “في المسألة العربية”: (يمكن نقد الديمقراطيين الأوائل… على أنهم لم يكونوا ديمقراطيين كما نفهم الديمقراطي اليوم. وربما كانوا محافظين في بعض جوانب حياتهم الشخصية. وعلى فكرة، نحن نعرف اليوم من السير التي كتبت ومن الوثائق التي كشفت أن منهم من لم يكن ليبراليا أو يحمل قيما ليبرالية في حياته). وكما أن هناك ديمقراطيين لم يكونوا ليبراليين، فهناك ليبراليين لم يكونوا ديمقراطيين، أشهرهم على الإطلاق هوبز المؤيد للحكم المطلق، وجون ستوارت مل. ومل هو مؤلف كتاب (في الحرية) وقد ألفه في القرن التاسع عشر… يقول عبدالله العروي: (إن مؤلف ميل يهدف أساسا إلى الدفاع عن الفرد ضد الدولة والمجتمع والجمهور)، الدولة التي كانت في ذلك الوقت “دستورية” و”ديمقراطية”. بل أكثر من ذلك يتحدث مل عن الديمقراطية قائلا: (بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية). فهناك، أولا، دول ديمقراطية ليست ليبرالية. وهناك، ثانيا، ديمقراطيين لم يكونوا ليبراليين. وهناك، أخيرا، ليبراليين رأوا في الديمقراطية تهديدا للحرية. هذا كله يجعل الربط بين الديمقراطية والحرية، والمماهاة بينهما، أو اقصاء احتمال تناقضهما: مسألة ينهشها الشك.
بالمقابل: هل فعلا لا يمكن أن ينشأ الإبداع والاستقلالية وامكانية أن يكون الإنسان سيد نفسه إلا في عش الحرية؟ يجيب جون ستوارت مل: نعم، ولهذا السبب وصف انجلترا بأنها ليست (وطنا لحرية الرأي). فالمجتمعات الانجلوسكسونية –بحسب مل، كما يقرأه العروي- تعرف نوعا من الاجماع الاخلاقي الذي ما إن ينعقد، إلا ويجد الفرد نفسه معاقا من الاعتراض ومحروما من التعبير، وذلك نتيجة سلطة هذا الإجماع، الذي يلغي أهم خاصية للتقدم والرقي البشري، وهي النقد والنقاش المفتوح، النقاش الذي لا يعرف نتائجه مسبقا، والذي يتناول كل شيء. فهذه الخاصية إذا سلبت من الفرد، فإنها تفقد المجتمع قدرته على التقدم والرق. هكذا يربط مل بين التقدم والنقاش المفتوح والاستقلالية، وبين انعدام الحرية جراء سلطة المجتمع. يعلق اشعياء برلين في كتابه (مفهومان للحرية) على مل قائلا: (أن مل يخلط بين فكرتين واضحتين ومتميزتين. الأولى هي أن الإكراه أو الإجبار… عمل سيء. الفكرة الثانية هي أن على الأفراد محاولة اكتشاف الحقيقة أو محاولة تطوير شخصية معينة تحمل صفات يوافق عليها (مل)،… شخصية ذات صفات أصيلة، انتقادية النزعة، خيالية، مستقلة، صعبة الانقياد والتكييف) ويتابع برلين حديثه بأن هاتين الفكرتين ليستا متشابهتين، وأن الربط بينهما يحتاج لإثبات، ويزيد القول: (غير أن التاريخ يكشف … أن الاستقامة وحب الحقيقة والفردية المتقدة، قد تنمو في مجتمعات ذات نظام تربوي صارم كالنظام الطهراني (البيورتاني) الكلفاني في اسكتلندا أو نيوإنجلند في أمريكا، أو في نظام عسكري…). وهكذا يتضح أن الحرية ليست شرطا للنبوغ والابداع وازدهار القدرات البشرية.
هل الحرية لا قيمة لها إذن؟ ليس هذا هو الهدف من هذه المقالة، بل الهدف تحديدا هو توضيح أن هناك تشويش كبير في طرح “الحرية”، تشويش يصل للخلط بينها وبين مفاهيم أخرى، قد لا تكون مرتبطة بها ضرورة. تشويش يجعل من المباح طرح التساؤل التالي من جديد: ما هي الحرية؟ ولماذا نطالب بها؟