من التدخين، الحوادث المرورية، الاغتصاب، جرائم الانترنت، الرشوة، الواسطة، الفساد الإداري…. هذه غيض من فيض من المشاكل التي يعاني منها المجتمع. والسؤال: على عاتق من تقع مسؤولية فهم هذه الظواهر وطرح الحلول لها؟ هل هم الفقهاء؟ هل هم المتخصصون الأكاديميون في علم الاجتماع أو الاقتصاد أو علم النفس؟ لنأخذ، على سبيل المثال، موقف الفقيه من التدخين. يبدأ الفقيه البحث في ماهية التدخين، وبعد التعرف عليه ينتقل للحكم عليه بأحد الأحكام الخمسة: حرام، أو مكروه، أو مباح، أو مستحب، أو واجب. هكذا تنتهي مهمة الفقيه، يأخذ المسألة ويجردها تماما عن كل ما يحيط بها من ظروف اجتماعية وتاريخية ونفسية وذهنية، ليحكم عليها، وبعد إطلاق الحكم يطالب الناس بالالتزام. لنأخذ مثالا آخر يوضح هذه الفجوة التي تفصل بين الفقيه والمجتمع بشكل أوضح، والمثال هو “الواسطة”. يدرس الفقيه “الواسطة” بآليته السابقة لينتهي بالحكم عليها بأنها حرام، ورغم اشتهار حرمتها، لا نجد ظاهرة تتفاقم كتفاقم ظاهرة “الواسطة”. والسبب في ذلك هو أن الواسطة ليست مشكلة مستقلة بنفسها، بل نتيجة لمشاكل اجتماعية أخرى في شبكة شديدة التعقيد، تجعل الفرد المأسور داخلها لا يستطيع أن يكمل حياته إلا بالانحياز لعشيرة يستطيع من خلالها “تبادل الوساطة” مع أفرادها، وتجاوز كافة التعقيدات التي قد تواجهه ويفرضها عليه واقع فاسد أصلا. تتحول الواسطة بالنسبة للفرد إلى طوق نجاة، في بحر متلاطم من تجار جشعين، ومؤسسات فاسدة وبطيئة… ومن كانت هذه حاله، من الطبيعي جدا ألا تشكل فتاوى الفقيه بالنسبة إليه أي قيمة.
هل الأكاديمي المتخصص في العلوم الإنسانية أحسن حالا منه؟ الجواب: لا. فالاكاديمي الذي يدرس علوما تطورت في حياض مجتمعات تختلف كثيرا عن مجتمعنا، لن يفيد منها كثيرا في فهم الظواهر المحيطة بنا.
هذا غير العلاقة الحذرة بين الاكاديمي المتحصن في جامعته، وبين الفرد العادي. وحتى لو تجاوزنا هذه العوائق فإننا سنصطدم بجدار صعوبة تطبيق الوسائل العلمية… فلرصد ظاهرة اجتماعية، نكون بحاجة دراسات احصائية وبيانات استطلاعية متنوعة، تكون لنا بمثابة مؤشرات وقرائن نفهم بها هذه الظاهرة. وهذا الأمر هو الذي اشتكى منه الباحثان: ثريا التركي وأبوبكر باقادر في دراستهما التي بذلا فيها جهدا جبارا “جدة أم الرخا والشدة: تحولات الحياة الأسرية بين فترتين”، إذ يقولان: “وهنا قد يصبح من المهم الإشارة إلى إحدى سلبيات العمل… فقد خلت هذه الدراسة- إلا في بعض الأحيان- من بيانات إحصائية موسعة ومعمقة، ولم يكن هذا تجاهلا أو عدم إدراك لأهمية ذلك من الباحثين، ولكنه ناتج عن قلة البيانات الاحصائية المتوافرة عن مجتمع الدراسة، وهي آفة تعاني منها البحوث الاجتماعية بشكل عام في المنطقة العربية”.
مجتمعنا لم يعد ذاك المجتمع البسيط، بل هو، ومنذ السبعينات، يتجه لأن يكون شديد التعقيد من حيث الانفجار السكاني وتكون المدن المليونية وزيادة التعليم والهجرة وزيادة التداخل مع العالم الخارجي في شتى النواحي. وعلى الرغم من كل هذه التطورات، لا يجد من يفهمه، من يحلله، من يطرح له حلوله. بل حتى الأدب- أو أغلبه الأعظم، حتى لا نقع في فخ التعميم- الذي يفترض به أن يكون معبرا عن هذا المجتمع، نجده حتى الآن لم يراوح طفولته في الخوض بتابوهات مجتمعه. ولعل الظاهرة الاجتماعية الوحيدة التي سالت من أجلها الكثير من أنهر الحبر، هي ظاهرة “الإرهاب”. ولكن القليل جداً من هذه الكتابات التي حاولت أن تفهم هذه الظاهرة، أن تربطها بمحيطها، أن تجتهد في البحث عن جذرها، أو جذورها، كي تزيله وتزيلها معه. هذه الملاحظات كلها تقودني للتساؤل: هل هناك عزوف من قبل الطبقة المثقفة عندنا عن التصدي لحل مشاكل مجتمعها؟ هل يجدونها مسألة غير مجدية، لا تستحق الاهتمام؟ أعتقد أن ثقافة حل المشكلات ثقافة ضرورية وأننا بحاجتها، بحاجة هذا الهاجس، هاجس التغيير المبني على علم بالمشكلة وتحري الدقة في طرح الحل. لا تلك الحلول السحرية التي يجود بها مثقفونا، التي لا تزيد عن كونها شعارات تعبوية أو اقتباسات ميكانيكية ترى الانسان مسلوخا من كافة ما يحيط به من معطيات.