أهداني صديق لي قبل أسابيع مجموعة محاضرات سمعية عن الحسبة ألقاها يوسف الأحمد. طرح الأحمد يعتبر طرحا سلفيا متقدما نوعا ما، من حيث الآليات التي اقترحها للإنكار والوسائل التي شرحها، وبالمجمل كان الطرح عمليا جدا ومفيدا. وعلى الرغم من المجهود الذي بذله الأحمد، إلا أن هناك مجموعة من الملاحظات التي أود مناقشتها هنا.
أولى هذه الملاحظات وأهمها على الإطلاق ه و ذلك الحد الفاصل بين “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وبين “احترام الخصوصية”، فالأحمد لم يحدده لنا. وأنا أعتقد أنه يتبنى التحديد التقليدي بين ما هو خاص وبين ما هو عام، فالخاص ما يجري داخل البيوت والعام ما يحدث أمام الناس، وأنا أعتقد أن هذا التحديد لم يعد عمليا. فخصوصيتنا اليوم معرضة للإختراق أكثر من السابق، وهي معرضة لهذا والواحد منا في عقر داره، خصوصا مع تطور وسائل الاتصال. فهذا التطور على الرغم من كونه يسعفنا كثيرا في تيسير تواصلنا مع الآخرين، إلا أنه يعرض خصوصيتنا للخطر. وموضوع الخصوصية وحمايتها موضوع ضخم، وما أردت الاشارة إليه هنا هو أن عدم إعارة الأحمد لهذا الموضوع أي اهتمام رغم ارتباطه الوثيق بموضوع الحسبة، يشكل جزء من ظاهرة عامة في الخطاب الديني عندنا الذي يهتم كثيرا بالحسبة ولا يكاد يشير إلى الخصوصية. الملاحظة الثانية تتعلق بتحديد كل من “المعروف” و”المنكر”، فجميع الأمثلة التي أوردها الأحمد، وهي الأمثلة التي عادة ما نسمعها عندما يأتي الحديث عن هذا الموضوع؛ أقول: جميع هذه الأمثلة تتعلق بـ”الهوية”… كتبرج المرأة، ورفع أصوات الأغاني، والاختلاط… وغيرها من القضايا التي ترتبط، أكثر ما ترتبط، بهوية المجتمع. وفي غمرة التشديد على الانكار في هذه القضايا، نجد تجاهلا تاما لقضايا الحقوق والواجبات. فمراقبة الأموال العامة، وفضح الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية، والحرص على المطالبة بحقوق الناس ومراقبة قيام المسؤولين بواجباتهم، كل هذه القضايا التي تعد عمود الحسبة وقلبها، ولأجلها شرعت، نكاد نجدها مفقودة تماما في الخطاب العام الذي ينظّر للحسبة، والسلوك العملي الذي نشاهده للمحتسبين. وفي غياب هذا الجانب المهم، والتركيز على الجوانب المتعلقة بالهوية، ينتج لنا مجتمع منضبط ظاهريا، ينخر فيه الفساد من الداخل. الملاحظة الثالثة، وهي مراعاة الاختلاف. فهل يجوز الإنكار في المسائل الخلافية؟ هذه النقطة الحساسة مغيبة تماما في خطاب الحسبة، وهي تلعب دورا مهما لتحقيق الرحمة التي يمثلها الاختلاف عمليا. فما جدوى ترديد ان “الاختلاف رحمة” طالما أن المحتسب يلزم الجميع بما اختاره هو من اختيارات خاصة؟ وهذه النقطة ترتبط بالتدين عموما، فالتدين من ناحية المبدأ هو شأن شخصي، وكلما كان تدين الانسان منطلقا من اختياراته الشخصية كلما كان أصدق، والعكس صحيح، أي كلما تم فرض نمط موحد للتدين، وإلزام الجميع به، كلما أضحى التدين إلى نوع من المظهر الاجتماعي، مثله مثل “اليونيفورم” يرتديه المرء اتقاء للآخرين والتزاما بأوامرهم. وبهذا يتحول التدين من كونه علاقة بين الانسان وربه عمادها الصدق والتقوى، إلى علاقة بين الانسان ومجتمعه عمادها الرياء والسمعة. فالاختلاف مدعاة نصيحة وحوار، لا إلزام وفرض.
إن قضية “الحسبة” تعتبر من القضايا الرئيسية التي تنقسم عندها التيارات الفكرية عندنا. فالليبرالي يجد في ممارسات رجال الهيئة تعد على الحريات الشخصية، والإسلامي يرى في وجودها حفاظا على المجتمع. وبسبب هذا الانقسام تنتقل قضية الحسبة، كغيرها من القضايا التي يختلف حولها الفريقان،
لتصبح قضية هوية ويصبح وجودها وعدمها معيارا لمدى: تحلل ومحافظة مجتمعنا، بلغة الإسلامي؛ أو تطوره وتخلفه، بلغة الليبرالي. وأنا أرى أن الخلاف بين الفريقين هو “سوء فهم” أكثر من كونه خلاف ذا موضوع حقيقي. فالمشكلة تبدأ من تحديد موضوع الحسبة: هل هو المجتمع وسلوكيات أفراده أم هي الدولة ومؤسساتها التنفيذية؟ وخلافات الفريقين دائما ما تبدأ عندما يجيبون على هذا السؤال الاجابة الخاطئة. أما أنا فأعتقد أن الدور الرئيسي لرجل الحسبة هو ذاته الدور المعلق على عاتق “المثقف العضوي” كما يسميه الفيلسوف الإيطالي غرامشي. فرجل الحسبة هو الذي ينذر نفسه للدفاع عن حقوق مجتمعه، لحل مشاكلهم، لحث الدولة (وهي هنا ليست الحكومة فقط، بل الحكومة والقضاء والشرطة…إلخ) على الالتزام بواجباتها إزاء مواطنيها. فهذه القضايا أهم بكثير من مراقبة أردية الناس وقصات شعورهم ومدى دقّة حواجب نساءهم…!
السؤال الذي تسائلته بعد سماعي لمحاضرات الأحمد كان التالي: كم كانت ستكون مفيدة تلك الوسائل الرائعة التي ذكرها للحسبة لو ربطها بقضايا “الحقوق والوجبات” بدلا من التشديد على ربطها بقضايا “الهوية”! وهذا السؤال يتفرع عن سؤال أعظم: هل الإصلاح هو الانتهاء بالمجتمع إلى نمط واحد في السلوك والمظهر؟ أم أن الإصلاح هو الحرص على أن الجميع متساوون في حقوقهم ووجباتهم؟