يكاد كل حديث عن الاجتهاد ينحصر في الاجتهاد الفقهي. فهو المقصود عند كل حديث عن فتح باب الاجتهاد. وهذا الحضور الفقهي يصاحبه غياب المطالبة بالاجتهاد في المعارف الأخرى. ولعلّ المعرفة التاريخية هي من أهمّ هذه المعارف التي لا تجد مطالبا بفتح بابها. وهذا العزوف عنها يعود- في نظري- للسمعة السيئة التي ارتبطت بها. فبعد الفتنة الكبرى التي كانت حروبا بين «تصورات تاريخية» مختلفة، استقرت الأمور بيد الأمويين الذين استمدوا شرعيتهم من تصور محدد للماضي الذي سبقهم. وهكذا، أصبح أي اجتهاد تاريخي في أحداث الفتنة الكبرى، يعني بالضرورة تهديد الشرعية التأسيسية التي قامت عليها الدولة، فيتم على الفور قمعها. ولهذا… تحولت الاجتهادات الأخرى إلى حركات سياسية معارضة للدولة، ترسخت مع الزمن كمذاهب إسلامية مستقلّة. ولأنه يهدد شرعية الدولة، أصبح الاجتهاد التاريخي: مهددا للحياة. ومن هنا نستطيع فهم سبب «عدم خوض» بعض المذاهب الإسلامية في التاريخ.
وبجانب هذا العامل، يقف عامل آخر لهذه السمعة السيئة، أعني: الاستشراق. فالدراسات الاستشراقية للتراث بمركزيتها الأوروبية، وارتباطها بالاستعمار: كفت عن أن تكون دراسات معرفيّة، وتمثلت في الوعي الإسلامي كتهديد للهويّة. وهذا ما يجعلنا نفهم ظاهرة «الردّ عليها». فالـردود في التقليد الإسلامي هي سلوك دفاعي يتضمن تسليما بصحّة ما ندافع عنه ضدّ الباطل الذي يتم ترويجه، والذي لا يعدو عن أن يكون «شبها» لا يحتاج لأكثر من ردّ. وهذه «الردود» في دفاعها عن الهويّة، زادت من ترسيخ ما تدافع عنه من قضايا تاريخية للحدّ الذي جعل هذه الأخيرة كالعقائد تماما.
ويلي الإستشراق: الدراسات الأيديولوجية العربيّة للتراث، ومعها تزداد سمعة «الاجتهاد التاريخي» سوءا. فهي لا تتطلّع إلى أي هدف معرفي، بقدر ما تهدف إلى تبرير توجهاتها الأيديولوجية الحاليّة بسند تاريخي. ولتحقيق هذا الهدف تلجأ لـ«تشويه» التاريخ بدل «فهمه». ولأنها تعتمد كثيرا على دراسات الاستشراق واجتهادات المذاهب المختلفة، فقد طالتها هي أيضا موجة «الردود».كل هذا جعل الاجتهاد التاريخي سلوكا مشبوها مهددا للهوية. في حين أن المطلوب: النظر إليه كحقل علمي هدفه المعرفة، سائغ الإجتهاد فيه، متحرر تماما عن هذه التركة التي تسيء إلى سمعته.