” …. ومن بين القرارات الجديدة أيضا: الإفراج عن كل سجناء الرأي، وتهديم كل المعتقلات السياسية في البلاد …”
هذا ما كان يردده المذياع عندما أوقف سيارته بجانب آخر السجون، أوقفها وترجّل عنها بحماسة شديدة، فبعد عدّة دقائق، سيكون الشخص الذي سيفك وثاق أكبر مفكري البلاد، وأقدم مساجين الرأي. كانت الفكرة تلهبه، فيتقدم إلى البوابة بخطى متسارعة تسبقه فرحته المتأججة منذ خمسة أيام، منذ اندلاع الثورة!
توجه إلى الزنزانة رقم “11”، وفتح بوابتها، وجلس بهدوء امام الشيخ الغارق بمطالعة الجدار الذي أمامه. بعد أن شرح له ما حدث، وعن الغاية التي قدم من اجلها استأذنه بأن يطرح عليه عدّة أسئلة روتينية فيطلق سراحه:
– ما هي التهمة التي وجهت إليك؟
مع هذا السؤال، بدت أول ردة فعل على محيّا الشيخ، فالتفت على سائله، وأجاب:
– الذكاء!
– كيف ذلك؟
لم يكمل السؤال إلا والشيخ يهبّ من مكانه مطبقا على فمه، يطالع حوله بترقب .. ثم همس في إذنه:
– لا تسأل أسئلة تبدأ بـ “كيف”، فهي أدلّة جنائية توصلك لحدّ السيف!
أفلت بصعوبة من يديه، وتمتم بارتعاش:
– لكني ، فقط .. أريد أن أعرف …
– لا حول ولا قوّة إلا بالله!
صرخ الشاب:
– ماذا .. ؟!
ابتعد الشيخ قليلا، ورفع أصابعا ثلاثا، وأمسك كل أصبع بيده الأخرى وهو يعدد:
– تسأل سؤالا بـ “كيف”، وتريد أن “تعرف”، وتقول : “ماذا” … هل نسيت أننا في بلد عربيّ؟
عندها تبسّم الشاب، وكأنه ينتظر هذه اللحظة فانفجر قائلا:
– ذاك زمان انقضى، الثورة قامت .. ولم يتبق من الطغاة أحد!
لم يتمم كلامه، إلا وأصداء ضحكة الشيخ تجلجل في الزنزانة الصغيرة… ضحك كثيرا حتى دمعت عيناه، وبعدها قال:
– لو لم يتبقّ من الطغاة أحد لما كنتً جالسا أمامي الآن!
– مـ .. مـ.. هل تقصد أنني طاغية؟
وبعد أن أرخى ظهره على جدار الزنزانة، قال:
– كلنا … كلنا طغاة يا بنيّ، لا فرق بيننا أبدا، فقط هناك من جلس على الكرسي، وآخر يتربص به…
لم يتمالك الشاب نفسه هنا، فقام قائلا بغضب:
– ذاك زمان مضى! شنقنا آخر أمير بلحية آخر شيخ!.. لم يتبقّ أحد ..
قال الشيخ وهو يضرب كفّا بكفّ:
– لا حول الله، هؤلاء كانوا طغاةً على علم… لم يتبقّ إلا الجهّال…
انتشرت لحظة صمت بينهما، انتهكها الشيخ عندما قام واقفا مشيرا لجدار الزنزانة قائلا:
– سأحدثك بأمر، عندما رُميت هنا قبل سنين كثيرة كانت أوّل فكرة راودتني هي الهرب ..
اقترب من الجدار وضربه بكفّه متابعا:
– لطن هذه الجدران السميكة كانت دائما عائقا دون الهرب! وكنت دوما أتسائل: لماذا هذه الحيطان سميكة إلى هذا الحدّ؟
سعل بشدّة، ثمّ جلس وأشار بيده إلى الشاب:
– أحتاج الأمر عشر سنوات كي أعرف السبب..
هذه الجدران سميكة بالقدر الذي تحمينا! تحمي بشريتنا!
قد لا يستوعب عقلك الشاب ما أرمي إليه، لكن هذه الجدران تذكرك كل يوم بما تفقده، بما تنشده، بالحريّة. تردد عليك صباحا مساءً أنك مقموع، مصادر، مسلوب…
ولكنّ الحياة التي خلفها: سجن ضخم جدا، لكنه هذه المرّة بلا جدران. حرّاسه الوهم، والدعاية، وسماسرة الدين والإعلام.. خارج هذه الحيطان، أي عزيزي الثائر الظافر، سجن لا يحول بينك وبين حريتك لكنه يوهمك دوما بأنه هو، بأغلاله وجلاوزته، بأنه هو الحريّة التي تنشدها….
احتاج الأمر 10 سنوات كي أوقن بفضيلة هذا الجدار…
هنا، توقف فجأة عن الكلام، وتلفّت حوله، حتى وجد المفاتيح، فأخذها وأعطاها الشاب، الذي أخذها ذاهلا، وما إن همّ بالخروج حتى جاءه صوته قائلا:
– لم أكذب عليك: كان الذكاء … في المحاكمة قال لي القاضي: “أن الله وهبك عقلا ناقدا متسائلا، وحفاظا على هذه النعمة من أن يستولي عليها أعداء الأمّة، قررنا حبسك حتى نطمئن من زوال الأطماع!… في هذه البلاد وحدها يكون الذكاء: جريمة تهدّد الأمن القومي!
خرج الشاب من عنده، وبقي الشيخ وحده في السجن، ولم تمرّ 10 أيّام، إلا وأصدر مجلس الثورة قرارا يقضي بإجباره على الخروج من السجن، حفاظا على سمعة الثورة، وتوظيف ذكاءه لمصلحة الأمة الخالدة…
انتهت