يقول محمد عابد الجابري : ” إذا كان لا بد من تحديد نقطة ينقسم عندها الفكر العربي الاسلامي، منذ عصر التدوين إلى اليوم، إلى ما قبل و ما بعد ، فإن هذه النقطة لا يمكن ، في نظرنا ، أن تكون شيئاً آخر غير لحظة الغزالي” (1). هذا النمط من التفكير نجده أيضا عند السكران الذي يتساءل : ’مالفرق بين العلمانية العربية ما قبل (1984م) والعلمانية العربية ما بعد (1984م)؟‘(ص10)، على اعتبار ان هذا العام هو العام الذي أُلف فيه أول أجزاء “نقد العقل العربي”.
نحن الآن أمام نمط من التفكير، يعتقد أن بإمكان رجل واحد ، بل مؤلَف واحد ، أن يكون منعطفا رئيسيا ولحظة تأسيسية في مسار فكر ما، بحيث يقسم هذا المؤلَف تاريخه إلى “ما قبل” و “ما بعد”. ماذا يلغي هذا النمط ؟ يقول جورج طرابيشي في معرض تحليله لـ “مصائر الفلسفة في الإسلام والمسيحية” عن الدور الذي قام به الغزالي كمسدد للضربة القاضية للفلسفة – كما يقول الجابري: ” ونظرية “الضربة القاضية” الغزالية، التي يتبناها الجابري … هي إما نظرة ساذجة أو سيئة النيّة … ساذجة لأنها تتصور أنه في مستطاع فقيه متكلم … أن ينهي بمفرده الفلسفة ويهير صرحها .. وسيئة النية لأن الغرض المسكوت عنه الذي تقوم على أساسه هو أن الفلسفة العربية الإسلامية هشّة بتكوينها وسريعة العطب بطبيعتها “المستوردة” وقابلة للسقوط من الضربة الأولى .. ولئن ماتت (= الفلسفة الاسلامية) فما ذلك بضربة من عصا ساحر أسماها صاحبها (تهافت الفلاسفة)، وإنما بأسباب تاريخية. “(2) .
“الأسباب التاريخية” ، أو التاريخ ، هو “عبّاد الشمس” – كما تعلمنا في الكيمياء – الذي يبيّن لنا الحمض عن القاعدة، والتفسير الأسطوري عن التفسير الواقعي. فالفكر هو استجابة للأحداث التي يتشكل في أحضانها ، وتحولاته لا تجد تفسيرا إلا في تحولات الواقع الذي يحتضنه. وهذه العلاقة الجدلية بين الفكر والتاريخ ، هي التي تمكننا من تفسير الاثنين ، أو الاقتراب من ذلك على أقلّ تقدير.
ولنعد الآن لسؤال السكران السابق ولنمارس بعض التفكيك عليه:
أولا ، عندما يتسائل السكران عن الفرق بين العلمانية العربية قبل وبعد 1984 : ماذا يسكت عنه ؟ إنه يسكت عن أن غير “العلمانية العربية” : هي هي ، لم تشهد أي تحولات. و”غير العلمانية” لن يكون سوى “الفكر الإسلامي”. بينما نحن نقول أن الفكر العربي كله – علمانيه وإسلاميه – شهد تحولا كبيرا ، سنبينه بعد قليل.
ثانيا ، أنه يمارس نوعا من “المكارثية” بنسبة أفراد تلك المدرسة المزعومة كلهم إلى العلمانية ، في حين أن البعض منهم ، ومنهم الجابري ، يتبرأون من العلمانية! وسواء قصد السكران العلمانية بمعناها الشامل او بمعناها الجزئي- إذا أردنا استعارة لغة المسيري، فالجابري – ونحن نركز عليه للدور الرئيسي المنسوب له في هذا التحول الكبير – يصرح بأن العلمانية ، باعتبارها استقلالا عن المؤسسة الدينية، لا حاجة إليها في الإسلام طالما أنه لا وجود لمؤسسة دينية فيه، ويسعى دائما إلى تفسير أحكام الإسلام تفسيرا يزعم أنه يريده “أصيلا ومعاصرا” وفي كلا الحالتين تنتفي عنه شبهة العلمانية بمعنييها .
ثالثا ، مالعبقرية الكبيرة التي تادت “بنقد العقل العربي” لأن تكون له هذه المكانة التأسيسية في تحوّل العلمانية العربية ؟ يجيب السكران بأنه ’التحول من “الاستهداف المباشر للشريعة” إلى إعادة تفسير التراث”‘. وبغضّ النظر عن المضمون المؤامراتي لهذه الإجابة ، إلا أننا يحقّ لنا التساؤل: هل فعلا أن هذا التحول ابتدأ فقط عند هذه اللحظة ومع الجابري ؟
سنبدأ من العام 1926 وهو العام الذي نشر فيه طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي وجه سهام الشك إلى الشعر الجاهلي وحقيقة وجوده ، مما حدا بالمفكر الإسلامي مالك بن نبي أن يقول “فالمشكلة بوضعها الراهن – إذن تتجاوز نطاق الادب والتاريخ، وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله ” وتبعا للتطور الجديد في الفكر الاسلامي ، فان ضرورات هذا “التطور تقضي بتعديل منهج التفسير القديم تعديلا يناسب في حكمة وروية مقتضيات الفكر الحديث”. ومن هنا بنى مالك بن نبي إثباته لنبوّة محمد بمنهجية تختلف عن “التفسير القديم” الذي لا يتناسب مع “مقتضيات الفكر الحديث”(3).
بل يمكننا العودة إلى أقدم من ذلك، إلى 1902م ، حيث تلك المدونة الضخمة التي كتبها جورجي زيدان عن “تاريخ التمدن العربي”. وشهدت فترة ما بين الحربين تناميا لدراسة التراث الإسلامي عند كبار المفكرين والادباء والفقهاء، فنرى توفيق الحكيم يؤلف مسرحيته عن النبي ، ويكتب هيكل كتابه عن “حياة محمد” ويكتب علي عبد الرزاق – الازهري- كتابه “الإسلام وأصول الحكم” في عام 1925م نافيا كون “الخلافة” من الإسلام في شيء.. وتتوالى الدراسات حول التراث في تلك الفترة التي شهدت فسحة من الحريّة.
وان كانت هذه الدراسات دراسات متفرقة ، فإن أنضج مشروع متكامل لدراسة الحضارة الإسلامية هو ذلك المؤلف الذي كُتب عام 1928 ويبحث “عن الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الاموية” ، عنينا “فجر الإسلام” لمؤلفه أحمد أمين، وما تبعه من اجزاء : “ضحى الإسلام” (1933-1936) “ظهر الإسلام” (1953) الذي ينشر الجزء الاخير منه بعد وفاته. وهذا المشروع ليس مجرد كتابا مدرسيا همّه العرض والتنقيب، بل إن كتابه انحاز انحيازا تاما للمعتزلة وتحسّر على اندراس علومهم ومدرستهم.
ولو نظرنا إلى المشاريع التي درست التراث متوسلة بمناهج غربية، فإن محمد جابر الأنصاري يقدم لنا صورة بانوراميّة عنها : فنجد دراسة محمود امين العالم ” الفكر العلمي عند العرب” تحمل قبس السبق (1956). ويستكمل اليساريون دراساتهم في التراث، فنجد طيب تيزيني يخرج لنا دراسته “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي الوسيط” (1971).بعد ذلك نجد حسن مروة يقدم لنا في اواخر السبعينات كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”. وقبل أن نصل إلى الجابري علينا ان نتوقف عند البحث الذي قدمه أدونيس عام 1973 عن “الثابت والمتحول : بحث عن الاتباع والابتداع عند العرب”. وفي ضمن هذا السياق فقط ، لا بالانفصال عنه ، تندرج دراسات المغاربة منذ مالك بن نبي مرورا بالعروي والجابري والمرزوقي وطه عبد الرحمن وغيرهم.
فنحن لا نتكلم عن جماعة سريّة ، تُسمى “العلمانية العربية” ، هدفها الرئيسي : تحييد الوحي ، وتكريس قيم المدنية؛ بقدر ما نتحدث عن مجموعة من المفكرين العرب الذين سعوا – كل بحسب مقصده – إلى دراسة التراث بعيدا عن النظرة التقليدية له، وهذا الابتعاد عن النظرة التقليدية ليس تقصدا للمغايرة ، بقدر ما هو محاولة للاقتراب من حقيقة هذا التراث ، باكبر قدر ممكن. ونحن هنا لا ندعي أن هذه المحاولات كانت تتم لأهداف علمية ، وإنما نقول أن الكثير منها خالطه الانحياز والانتقاء والتأثر بالاستشراق وما إلى ذلك.
والغريب أن الذي سيعقد مرافعة عن التراث متهما الثقافة العربية –بكافة أطيافها الماركسية والقومية والاسلامية والعلموية – أنها المسؤولة عن “ذبحه” هو المفكر ذو الأصول المسيحية جورج طرابيشي. فيتناول دراسات لسمير أمين 1984، والأرسوزي 1972، ومحمد عمارة 1980، زكي نجيب محمود 1974، الجابري 1984، متهما إياها بانها دراسات غير علمية ولا تهدف لمعرفة – او حتى الاقتراب من هذه المعرفة – “ما قد جرى” بقدر ما تهدف إلى “تجيير” التراث بالكيفية التي تسندها أيديولوجيا. وهذا كله في كتابه “مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة”.
ومن هذا كله يتبيّن أن دعوى مركزيّة “1984” ومفصليّة نقد العقل العربي ، بأنه بداية المرحلة الثانية من التكتيك العلماني الجديد بالابتعاد عن استهداف الشريعة لإعادة تفسير التراث، ما هي إلا أسطورة لا نعلم لها مستندا تاريخيا ولا معنى بنيويا . بل إن الأنصاري – وهو ذاك المؤرخ للفكر العربي عبر مؤلفاته “الفكر العربي وصراع الاضداد” و “تحولات الفكر والسياسة” و “مساءلة الهزيمة” – يقول عن الجابري ونقده : “(نقد العقل العربي) أشبه ما يكون ببناء معماري فسيح له واجهة زخرفية جذابة واروقة تبهر القادمين إليه ، لكنه من الداخل لا يضم إلا القليل من الغرف الصالحة للسكن” ويصف نتائجه بانها “موضع نظر ويتصف بعضها بالهشاشة المعرفية والتنظيرية التي لا تمثل بناء يذكر في الفكر العربي” ويرجع ذيوعه ، لا إلى مضمونه ، بقدر ما أرجعه ” إلى قدرته على تبسيط القضايا الفلسفية والفكرية لجمهور عربي من عامة المثقفين والمتعلمين الذي لم يلموا بتاريخ الفلسفة العربية والإسلامية، .. فوجدوا في تبسيط الجابري لها غذاءً ثقافيا … وحيث أن مثقفي المشرق كانوا أكثر جهلا بقضايا الفلسفة الإسلامية … فقد كانوا أكثر افتتانا بما جاء به الجابري ” (4).
حتى الآن قمنا بنفي تهمة “الفرنكفونية” عن تلك الدراسات التي تناولت التراث، وبالتالي نفي ارتباطها بقوى خارجية، ونفينا عنها أسطورة “1984” ، وبالتالي نفي المغزى المؤامراتي لهذه الأسطورة، يتبقى الآن أن نتناول قضيتين : “الفكر الإسلامي”، ذاك المسكوت عنه في دراسة السكران، و “الفكر العربي وكيفية النظر إليه”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نحن والتراث ، محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية : ص 161.
(2) مصائر الفلسفة في الإسلام والمسيحية ، جورج طرابيشي ، دار السافي : ص 80-82.
(3) الظاهرة القرآنية ، مالك بن نبي ، دار الفكر ، ص 57.
(4) مساءلة الهزيمة ، محمد جابر الأنصاري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: ص124-125.