إن الطريقة التي يقدم فيها الإعلام الأخبار كأحداث معزولة تاريخيا عن بعضها البعض وغير محكومة بأي سياق، تحفز دوما بلورة آراء عن هذه الأحداث هي الأخرى معزولة أيضا عن السياق التاريخي العام الذي خلاله تحدث وتتشكل هذه الأحداث؛ السياق الذي بدون فهمه والاستناد عليه تصبح المقاربات والمعالجات أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح. وحالات الاحتجاج الخدمية على أداء المؤسسات الحكومية التي حدثت الأسبوع الماضي في مدن متفرقة، هي من تلك الأحداث التي يجب مقاربتها ضمن السياق العام الذي يحتويها، أي سياق العلاقة التاريخية بين جهازنا البيروقراطي والاحتجاج.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء تدفق العوائد النفطية منذ عام ١٩٤٨م أصبحت الحاجة ملحة لإنشاء جهاز تنفيذي مناسب لإدارة هذه الثروات بالشكل الذي يستجيب لحاجات المواطنين ومتطلبات التنمية. وفعلا، تم إنشاء مجلس الوزراء أواخر العام ١٩٥٣ كنواة يتأسس عليها باقي الجهاز التنفيذي. ونتيجة لكون الغاية من تأسيس هذا الجهاز البيروقراطي هو تحقيق التنمية عبر ترشيد الثروة النفطية بتحويلها إلى مشاريع وخدمات متنوعة، فإن تشكله جاء على أساس مركزي من ناحية التخطيط والتنفيذ. وهذه المركزية في بدايات العملية التنمية مفهومة بل يمكن القول أنها مطلوبة باعتبارها وسيلة أسهل لتنفيذ الخدمات والمشاريع التنموية بطريقة أسرع.
وانطلاقا من حقيقة أن الجهاز البيروقراطي بمركزيته هذه تم تأسيسه وترشيده والمجتمع لم يزل في حالته التقليدية المحكومة بالعادات والتقاليد والمستوى المعرفي والثقافي المتدني فيما يتعلق بإدراكه لحاجاته ومتطلباته الحديثة، فإن ظاهرتان قد نتجتا عن هذه الحالة. الأولى هي تواري العيب الأساسي الذي ذكره فريدريك هايك عما يتعلق بالتخطيط المركزي، وهو أن المعلومات المتوافرة لدى من يقوم بالتخطيط المركزي أقل بكثير من مجموع المعلومات التي تحرك باقي الفاعلين في المجتمع، مما يؤدي حتما لفشل تخطيطه. وتواري هذا العيب في بدايات عملية التنمية يعود بصفة رئيسية إلى تدني ثقافة وتعليم المجتمع مما يجعل ادراكه لحاجاته ومطالبه الحديثة غائبا، وبالتالي محايدا، ان لم يكن ممانعا، للسياسات التنموية.
أما الظاهرة الثانية، فهي أنه بالانطلاق من كون المجتمع ما زال تقليديا تلك الفترة، فإن مسألة التعامل مع الشكاوي والاحتجاجات والمطالب قد تشكلت ضمن الصيغة التقليدية المباشرة والشخصية، الأمر الذي كان مفهوما ومتصورا في تلك الفترة خصوصا مع قلة الكثافة السكانية. أي أن التواصل بين الجهاز والمجتمع كان متواجدا وإن كان بصفة تقليدية وليست صفة مؤسساتية ومرشدة منبثقة من تكييف وإطار قانوني. وبالنظر للظاهرتين، نستطيع ملاحظة كيف ساعدت تقليدية المجتمع في بدايات العملية التنموية من اخفاء عيوب المركزية.
لكن مع مرور الوقت، وبعد نجاح العملية التنموية في رفع مستويات التعليم والادراك، بالإضافة إلى تزايد الكثافة السكانية وتعقد أنماط العيش، وتضخم وتعقد النظام البيروقراطي نفسه أيضا، نجد أن العلاقة بين النظام البيروقراطي والمجتمع قد تغيرت نتيجة لتغير الطرفين. فزيادة مستويات التعليم والوعي والإدراك أ’ظهر عيوب التخطيط والتنفيذ المركزي إلى الواجهة، إذ أصبح الُمخطط المركزي يتمتع بمعلومات أقل بكثير من معلومات الأفراد عن حاجاتهم ومتطلباتهم في الجهة التي يتم التخطيط لها، خصوصا أن المركز بعيد عن الجهة مما يجعل عملية التخطيط قائمة على افتراض هذه الحاجات والمطالب أكثر من معاينتها على حقيقتها. ومن ناحية أخرى فبسبب تعقد المجتمع وزيادة كثافته السكانية وتعقد النظام البيروقراطي، أصبحت وسائل إيصال الشكوى والاحتجاج التقليدية غير فاعلة ولا مجدية نظرا للتباعد الهائل بين المركز والطرف وتضاعف الحواجز بينهما، وعدم توفر مندوب المركز في الطرف على الصلاحيات التي تمكنه من الاستجابة لهذه الشكاوى بالكفاءة والسرعة المطلوبة.
وانطلاقا من هذين العاملين (مركزية التخطيط والتنفيذ، وفقدان وسائل الاحتجاج التقليدية لفاعليتها) يمكن وضع أحداث الاحتجاج الخدمية التي حدثت الأسبوع الماضي في سياقها الصحيح. ومن هنا، يبدو من الضروري أن يتم إصلاح الجهاز البيروقراطي من جهتين: فمن جهة يتم إصلاحه بحيث يكون لامركزيا أكثر، أي أن تزداد من فاعلية وصلاحيات أمراء المناطق ومجالسها والمجالس البلدية بحيث تتحول إلى ميادين تحديد أولويات المطالب والاحتياجات للمنطقة بالاضافة إلى ميادين للاستجابة للشكاوى وحل المشاكل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بد من ترشيد الاحتجاج والشكوى وتأطيره بالوسائل الحديثة (التعبير عبر وسائل الإعلام، والتجمع السلمي..إلخ) التي تمكّن من الرقابة الشعبية على الجهاز البيروقراطي واستعادة التواصل الفعّال بين مُوفر الخدمة (الجهاز البيروقراطي) و المستفيد منها (المواطن).