تقريبا منذ الفيلسوف الألماني ماكس فيبر، وتحديدا منذ كتابه (الإقتصاد والمجتمع) المكتوب عام ١٩٢٢، ونحن نعلم أنه لا مفر للدولة الحديثة التي تقوم بتوفير خدمات كثيرة للمجتمع من تعليم وأمن وصحة وجيش وغيرها من أن تعتمد على نظام إداري معقد هو ما تم التعارف عليه باسم (البيروقراطية)، أو الحكم عبر المكاتب. هذا النظام نشأ باعتباره نظام شديد الفعالية في المجتمعات الغربية ذات الكثافة السكانية الهائلة والتي اضمحلت فيها كثير من التقاليد التي كانت تحكمها في الماضي، إذ جاء هذا النظام الذي يعتمد على عقلانية العمليات الحسابية ليحل محل تلك التقاليد وقيمها والتي قد تبدو غير مفهومة بالنسبة لعقل أداتي كذلك الذي تعتمد عليه هذه البيروقراطية. وعلى الرغم من الفوائد المتعددة التي توفرها البيروقراطية في إدارة الدولة، إلا أن أحد أهم أخطارها، والتي حذر منه ماكس فيبر ووصفه بـ(القفص الحديدي) هي نزوعها التلقائي لتقليص الحريات الفردية واقتحام مجاله الخاص.
في السعودية، لم يكن نشوء هذا النظام الإداري البيروقراطي المعقد نتيجة للرغبة بإيجاد بديل عقلاني لتلاشي التقاليد والقيم التقليدية من المجتمع، بقدر ما هو نتيجة رغبة بتوفير جهاز اداري مناسب يكون بمثابة قناة تتحول خلالها عوائد الثروة النفطية إلى مشاريع وانجازات تخدم الصالح العام للمجتمع. ولأن التقاليد الإجتماعية لم تزل محتفظة بسلطتها لحظة إنشاء ذلك الجهاز، فإنه قام بمراعاة هذه التقاليد، ولعل أهم الجوانب التي قام بمراعاتها هي تلك الجوانب المتعلقة بالمرأة، وخصوصا في مسائل اشتراط المحرم وموافقة ولي الأمر، حيث تم نقل هذه المفاهيم الفقهية من سياقاتها المتعلقة بالزواج والسفر، إلى السياقات الإدارية والهياكل البيروقراطية المتعلقة بالتوظيف والتعليم والتعاقدات المالية والقضائية، أي بشكل عام: تعامل الدولة بالفرد. وكمبالغة في هذه المراعاة تم اختلاق مسميات جديدة لحل مشاكل نابعة من هذه المراعاة، كاستحداث مفهوم (المعرّف)- الذي لم يعرف سابقا في الفقه الاسلامي- لمراعاة عدم كشف المرأة لوجهها.
ومع مرور الوقت الذي تسارعت فيه معدلات الهجرة الداخلية ونشوء المدن المليونية وتعاظم معدلات الاغتراب والسرعة الرهيبة لاضمحلال سلطة التقاليد الأسرية وتنامي الفردانية، تحولت تلك المراعاة البيروقراطية لتقاليد المجتمع إلى قيود معيقة للفرد. معيقة للمرأة بالدرجة الأولى ولكن أيضا للرجل الذي سيضطر للتضحية بوقته وبفرص كثيرة من أجل أن يقوم بتلبية المتطلبات التي يتطلبها قيامه بدور (المحرم)، وما ذلك إلا لأن غالبية الأجهزة البيرقراطية كانت بطيئة في مواكبتها لتطور المجتمع الذي كان أسرع منها.
إن مراعاة الجهاز البيروقراطي لتقاليد الاجتماعية، بغض النظر عن آثاره السلبية، هو أمر إيجابي من ناحية المبدأ حتى لا يتحول الجهاز البيرقراطي إلى ذلك القفص الحديدي الذي تحدث عنه ماكس فيبر يوما. لكن هذه المراعاة إذا تم توظيفها بطريقة خاطئة يمكن أن تتحول إلى أقفاص حديدية لا مجرد قفصا واحدا. فوزارة الداخلية، ممثلة بالاحوال المدنية والجوازات، تقدم مثالا إيجابيا لهذه المراعاة. فعندما تريد المرأة السفر لوحدها، أو السكن في فندق لوحدها، فهي تستخدم الموافقة أو بطاقة الأحوال التي لم تصدر إلا بعد موافقة ولي الأمر، وجهات الجوازات والأحوال المدنية لا تتعقب المرأة في سفرها للخارج وتنقلاتها الداخلية لتراقب ما إذا كان معها محرما أو لا، معتبرة أن مسؤوليتها أخليت بعد موافقة ولي الأمر على إصدار هذه المستندات. بالمقابل، نجد وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم تشترط على المرأة مرافقة محرم لها عندما يتم ابتعاثها للخارج أو تعيينها كمعلمة في الداخل، ولا تكتفي بإخلاء مسؤوليتها باشتراط موافقة ولي أمر على ابتعاث أو تعيين المرأة وتحمله وحده مسؤولية ما يحدث لها في حال ذهابها بدون محرم. في كلا الحالتين هناك مراعاة للتقاليد الاجتماعية، لكن في الحالة الأولى مراعاة تجعل موافقة ولي الأمر بمثابة إخلاء لمسؤولية الجهة الحكومية، بينما في الحالة الثانية لا تريد الجهة إخلاء مسؤوليتها، بل تضع اشتراطات صعبة تضطر الأسرة بسببها إما لصرف النظر عن هذه الفرصة أو لتقديم تضحيات من أجل عدم التفريط بها.
في كتابه الأخير عن النفط والدولة في السعودية، يبدأ ستيفن هيرتوغ كتابه بملاحظة طريفة لاحظها عند دخوله لقسم الاتصالات في إحدى الوزارات السعودية عام ٢٠٠٣. إذ في نفس الوقت الذي يتواصل الجيل الجديد من السعوديين بأحدث وسائل الاتصال الحديث، ما زالت الوزارات السعودية تعتمد نظام التواصل المدشن منذ السبعينات فيما بينها والمتمثل بالبرقيات والفاكس. هذه الملاحظة، أي تأخر أجهزة الدولة عن مواكبة المجتمع بعد أن كانت في لحظة تأسيسها متقدمة عليه، هي التي نسعى للتأكيد عليه هنا، وذلك ليس فقط في المجال التقني بل في المجال القانوني المتعلق بمراعاة التقاليد الاجتماعية. فمجتمع العقد الثاني من الألفية الجديدة ليس هو مجتمع الستينات والسبعينات من القرن الماضي من ناحية التطور الاجتماعي. صحيح أن سطوة التقاليد لم تضمحل كلية ولا حتى بدرجة متساوية في مناطق المملكة، لكن لا يمكن أبدا القول أن المجتمع ما زال هو نفسه. ومن هذا المنطلق، تصبح الحاجة ملحة لإعادة النظر في الأنظمة المصممة لمراعاة التقاليد الاجتماعية بالطريقة التي تواكب فيها التطورات الاجتماعية دون أن تتحول هذه المراعاة إلى تلك الأقفاص الحديدية التي تحدثنا عنها.
1 Response