منذ أن أطيح بالرئيس المصري، وبُدئ بالتحضير لكتابة دستور جديد للبلاد، كان النقاش المهيمن على الفضاء المصري السياسي هو النقاش حول ما اصطلح على تسميته (المبادئ فوق الدستورية)، وهو نفسه النقاش الذي ظهر أولا تحت عنوان (دولة مدنية أو دينية). دار النقاش بين رأيين، يرى أولهما أن تأسيس وعمل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور الجديد هي صلاحية حصرية للبرلمان، انطلاقا من كون أعضائه ممثلين لإرادة الشعب. في حين رأى الثاني أنه مهما كانت الطريقة التي ستتأسس وتعمل من خلالها هذه الجمعية التأسيسية، إلا إن عليها أن تكون محددة بمبادئ (فوق دستورية) تمنع الجمعية من أن تضع في الدستور ما يخالفها. وباعتقادي أن النقاش بين هذين الرأيين- الذين يتلحفان عادة بقيم برّاقة ونبيلة- لا يخفي إلا صراعا بين طغيانين- طغيان الأكثرية وطغيان الأقلية- على الاستئثار بكتابة الدستور لصالحها، هذا الدستور الذي يفترض أن الغرض من كتابته هو قمع هذين النوعين من الطغيان تحديدا.
يستند الرأي الذي يطالب بضرورة وجود هذه المبادئ، على أن هناك مخاطر حقيقية على قيم العدالة والحريات والحقوق المدنية في حال تم كتابة الدستور من قبل جمعية يتوقع أن غالبية أعضاءها لن يكونوا من أكثر المتحمسين لهذه القيم التي من أجلها كانت الثورة. وفي سبيل حماية هذه القيم من أن يتم المساس بها، لابد من طرحها كمبادئ فوق دستورية، تمنع كتبة الدستور من النص على ما يناقضها. وعلى رغم من أن هناك من اللبراليين من يتبنى هذا الرأي صادقا، إلا أن القوى المروجة له تخفي المقصد الحقيقي من ورائه، وهو أن المبادئ، مهما كانت صحيحة وعادلة، بحاجة إلى قوّة تفرضها وتحميها. وفي الحالة المصرية، لن تكون هذه القوة سوى المجلس العسكري، القوة المنتمية للنظام القديم والتي- حماية لمصالحها- ستسعى بشتى الطرق للحفاظ على حالة الوضع القائم. أي أنه حتى تكون هذه المبادئ (فوق الدستور) فعلى القوة التي تحميها أن تكون فوق الدستور أيضا، مما يعني شرعنة طغيان المجلس العسكري والسماح له بالتحكم بصياغة الدستور حسب مصالحه تحت لافتة حماية المبادئ (فوق الدستورية). وتجلى هذا الرأي واضحا في المبادرة التي تقدمت بها وثيقة مقدمة من قبل نائب رئيس الوزراء علي السلمي، والتي عرفت لاحقا باسم (وثيقة السلمي).
بالمقابل، ينطلق الرأي الآخر من مسلمة أن الدستور ليس شيئا آخر سوى التعبير عن الإرادة الشعبية. وأن الجميعة التي ستقوم بكتابته، ما لم يتم تشكيلها وتأسيسها إنطلاقا من هذه الإرادة الشعبية، فإنها لن تكون جمعية شرعية، بل محض طغيان جديد. وعلى رغم أن هناك ديمقراطيين صادقين في مكافحتهم ضد طغيان الأقلية، إلا أن القوى الكبرى المتبنية لهذا الرأي، وهم هنا الأخوان المسلمين والسلفيين، يقومون بتوظيف الإرادة الشعبية كمركب لتدشين طغيان جديد هو طغيان الأكثرية، وذلك عبر ترويج أن البرلمان هو المعبر الوحيد عن هذه الإرادة الشعبية، ومن هنا يكون للبرلمان وحده صلاحية تأسيس وتشكيل هذه الجمعية التأسيسية. وفي الحقيقة، أنه كما أن المجلس العسكري لا يملك حق ادعاء أنه ممثل لإرادة الشعب، فكذلك البرلمان لا يملك أيضا حق مثل هذا الادعاء، وذلك لأن أعضاء البرلمان الذين لا يتجاوزون الخمسمائة عضو هم أقلية وصلت للبرلمان بإرادة الأكثرية لا بإرادة الشعب، وكل عضو من أعضاء هذه الأقلية المنتخبة يعبر عن رأيه وقناعاته الخاصة المتأثرة بتوجهاته الفكرية وانتماءاته الحزبية ومصالحه الشخصية، ولا يعبر بحال عن (إرادة الشعب). ومن هنا يأتي التأكيد على احتكار البرلمان لتشكيل هذه الجمعية تحت لافتة أنه الممثل لإراداة الشعب، لا يؤكد إلا على الرغبة بضمان طغيان الاكثرية بالانفراد بكتابة الدستور بما يتوافق مع مصالحها وايديولوجيتها. ولهذا نزل الإخوان للشوارع في مظاهرات حاشدة للإطاحة بوثيقة السلمي وانتصرت في ذلك، تاركة القوى الديمقراطية المطالبة بإنهاء حكم العسكر في ميدان التحرير تواجه وحدها قمع ووحشية الأمن، بعد أن تأكدت أن اعتصامات هذه القوى لن تؤثر على سير الانتخابات البرلمانية، التي انتهت بفوزهم.
عندما كتب الأمريكيون دستور بلادهم التي استمرت لقرنين من الزمان، لم يقوموا بتضمين هذا الدستور أي مواد تتعلق بهوية المجتمع، ولا بالحقوق والحريات الشخصية، ولم يكونوا مشغولين بتدشين حكومة تعبر عن الارادة الشعبية، ولا حكومة تكون فعالة في التنمية الاجتماعية ولا لحل المشاكل الاقتصادية، بل كان الموضوع الرئيسي للدستور هو كيفية بناء جمهورية لا تسمح بأي نوع من الطغيان، سواء كان طغيانا فرديا، أو أقلويا، أو أكثريا. ولهذا السبب بالتحديد، استمر العمل بهذا الدستور لقرنين من الزمان، ولم يعطل العمل به دخول البلاد في حرب أهلية، ولم يفشل في مواجهة حربين عالميتين والكساد الكبير، وعلى الرغم من أنه تم تدشينه في مجتمع محافظ وعبودي، إلا أن دستوره لم يمانع أن يصل أسود لرئاسته عندما تغير المجتمع. وعدم فهم وظيفة الدستور بأنه وثيقة لتشكيل نظام حكم يمانع الطغيان بكافة أنواعه، وتحويله إلى نص حقوقي أو تعبيري عن هوية المجتمع والدولة أو اقتصادي، هو الذي يجعله مهددا لأن يكون فريسة للتعبير لا عن إرادة الشعب بقدر ما أن يكون معبرا عن إرادة أحد طغيانين: طغيان الأكثرية أو طغيان الأقلية.