إذا أردنا أن نضع معنى، ولو كان معنى مقتضب، لما عنته وتعنيه الظاهرة التي بدأت منذ لحظة إحراق البوعزيزي لنفسه وما تلى ذلك من أحداث متعاقبة، أي ما درج على تسميته بـ(الثورات العربية) أو (الربيع العربي)، فإننا لن نبتعد عن الحقيقة إن قلنا أن ما جرى هو أن مجموعات عديدة من شعوب الدول العربية حاولت وتحاول اقتحام مجالات دولها السياسية المغلقة أمامهم منذ عقود. وأن المجموعات التي نجحت في الاقتحام استطاعت تطهير هذه المجالات من النخب المسيطرة عليها. لكن هذا المعنى سيكون نصف الحقيقة فقط، إذ أن نصفها الثاني هو أن هذه المجموعات الناجحة تم ويتم إخراجها من هذه المجالات السياسية بعد أن تحولت إلى مجالات أوسع قليلا ومعدلة بالكيفية التي تجعل من وهم أنها ترجمان للإرادة الشعبية قابل للتصديق. وهذا المعنى يعبّر عنه عادة باللغة السياسية التقليدية عندما توصف عملية (التحوّل الديمقراطي) التي تجري هذه الأيام بأنها الانتقال من أنظمة تعطي للرئيس صلاحيات واسعة، إلى أخرى تعطي هذه الصلاحيات للبرلمانات المنتخبة من قبل الشعوب.
إن البرلمان، وهو هنا رافعة النخبة السياسية الجديدة الوريثة لتلك التي تم تطهيرها من المجال السياسي القديم، يقوم على المتناقضة التالية: أن تمثيله لإرادة الشعب لن يتم إلا إذا كان هذا الشعب خارج المجال السياسي. ولهذا السبب تحديدا تتحول المظاهرات المطالبة بتغييرات سياسية في نفس وقت انتخابات أعضاء البرلمان- وهي بالمناسبة نفس المظاهرات التي كانت تسمى بـ(ثورة) وأدت قبل أشهر فقط لتطهير المجال السياسي القديم- إلى مظاهرات فوضوية وعبثية وتُقمع بوحشية فقط لأن المجموعة المتظاهرة أبت أن يتم إخراجها من المجال السياسي وأن تتحول إلى محض مجموعة أصابع مغموسة بالحبر. أي أن العنف الذي ووجهت به هذه المجموعات عندما اقتحمت المجال السياسي أول مرة هو نفسه الذي ووجهت به- إن لم يكن أشد- عندما تم طردها منه. ولكن العنف الذي لم ينتصر عليها أول مرة لأنه كان عنفا مجردا، استطاع أن يسيطر عليها هذه المرة لأنه جاء بمباركة النخبة السياسية الجديدة التي تنكرت لدماء وتضحيات هذه المجموعات، وهي السبب الرئيسي في وصولها إلى ما وصت إليه، واختارت عوضا عنها ما تم ترسيخه في وعينا بأنه الوسيلة الوحيدة لكشف حقيقة إرادة الشعب، أي صندوق الاقتراع.
في كتابه (أزمة الديمقراطية البرلمانية) المكتوب قبيل الحرب العالمية الثانية، اعتبر كارل شميت، أحد أقطاب الفلسفة السياسية، القرن التاسع عشر قرن الصعود المظفر للديمقراطية، والتي لاحظ أنها أتت مرة متحالفة مع اللبرالية ومرة مع الاشتراكية بل حتى مع المحافظة، منتهيا إلى اعتبارها شكلا للحكم تكون فيه القوانين التي تحكم المحكومين صادرة منهم أنفسهم، أي تطابق الحاكم مع المحكوم، الدولة مع الشعب…إلخ. والمتناقضة الرئيسية التي تقوم عليها الديمقراطية أن شرعية الدولة قائمة على كونها تمثيلا لإرادة شعبها، ولأن الحكم بواسطة جميع المواطنين متعذر عمليا، تصبح كل الأنظمة التي تحاول الاقتراب من هذا التمثيل مدعية، سواء كان نظاما يدعي فيه الرئيس القائد تمثيل الشعب عبر وسائل العنف والبروباغندا إلى النظام البرلماني الذي تدعي فيه النخبة الموجودة تحت قبة البرلمان تعبيرها عن إرادة الشعب وذلك بمجرد فوزها بأصوات الأكثرية. وما ذلك إلا لأن الأكثرية مهما كانت (أكثرية) فهي ليست كل الشعب، وبالتالي لا يمكن أبدا أن تمثل (إرادة الشعب)- وهذه الإرادة كما يراها شميت أيضا ليست سوى وهم وعلمنة للإرادة الإلهية التي كانت تحكم بواسطتها أنظمة الحق الإلهي، فالإرادة مرتبطة بالفرد لا بالمجموعة إلا إن كانت مجموعة متجانسة تجانسا تاما من ناحية دينية وعرقية واجتماعية واقتصادية الأمر الذي يستحيل وجوده على هذه الأرض- التي تجعل من الآراء صائبة والقرارات تامة الصحة وغير قابلة للرفض. وطالما أن الرأي أو القرار ليس تعبيرا عن الإرادة العامة أو إرادة الشعب، فهو رأي كسائر الآراء، وإيمان الأكثريات والملايين به لا يجعله أكثر صحة وصدقا من غيره، وقد قال أحد علماء المعتزلة القاضي عبدالجبار مرة: ليست الكثرة من آمارات الحق، ولا القلة من علامات الباطل.
إن الثورة عندما تحدث فهي تفتح المجال للإبداع في شكل النظام السياسي الذي سيتولد، فالجمهوريات الأمريكية والفرنسية والإيرانية والاتحاد السوفييتي، وهي أنظمة وليدة للثورات، ولدت على غير مثال. هذه اللحظة الابداعية تبدو غائبة في الربيع العربي، إذ أن النموذج الديمقراطي البرلماني يتم التعامل معه وكأنه قدر لا محيد عنه، ذا سلطة هائلة يجعل من قمع المتظاهرين الذين قد يعيقون التحول إليه مبررا. وبهذه الطريقة تتعاضد دعوى (تمثيل الأمة) التي لا يقصد بها سوى تمثيل أكثرية الأصوات المحسوبة من صناديق الاقتراع، وإعاقة التحول نحو النموذج/السلطة في إعادة تضييق المجال السياسي بحسب المقاس الذي يتناسب مع تحالفات القوى السياسية الجديدة والأخرى الباقية من النظام القديم وطرد المجموعات التي كانت سببا في كل التغيير الذي جرى من نطاقه.