من بين الشروط التي ذكرها ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) والتي على الفقيه العالم أن يتصف بها هي اشتراطه له بأن يكون (عالما بما يبلغ، صادقا فيه، …. عدلا في أقواله وأفعاله، مشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله…). وفي ميدان السياسة، نجد ميكيافيلي، وهو أول فلاسفة السياسة الحديثين، ينصح الطامحين للسلطة والمتعاطين للسياسة بالتالي: (عليكم أن تتعلموا ألا تكونوا فضلاء، وأن تتعلموا كيف توظفون معرفتكم وكيف ألا توظفوها حسب الحاجة). كم هو البون شاسع هنا بين المجالين والصفات اللازمة للعاملين فيهما؟
إن ميدان السلطة هو ميدان القوّة والمصلحة وليس ميدان الحقّ، وكل حديث في السياسة عن الحقيقة إنما هو (استعمال) لها وتوظيف، ومحض ادعاء زائف. وبالمقابل فإن ميدان الحقيقة هو ميدان العلم الذي بمقدار انفصاله عن السياسة، أي بمقدار انفصاله عن تأثير القوة والمصالح السياسية بمقدار ما يقترب إلى الحقائق. وانطلاقا من كون هذه العلاقة بين الميدانين مشبوهة، كان العلماء الأوائل حريصون أشد الحرص، وبشكل مبالغ فيه جدا، على عدم الاقتراب من السلطان وقبول أعطياته وهباته، خشية أن يقدح ذلك في استقلالهم ونزاهتهم العلمية.
وفي العصر الحديث، عصر الدول-القومية التي يقابل المجتمع تغولها عادة بردات فعل متنوعة لعل أشدها خطرا هي ردة الفعل التي تأتي على شكل جماعة شمولية تقوم بحشد الناس على أساس أيديولوجي يقارب حاجاتهم وقناعاتهم ويقينهم. وتختلف الأيديولوجية التي تتبناها هذه الجماعة بحسب طبيعة المجتمع التي تريد السيطرة عليه، وفي مجتمعاتنا العربية كانت الايديولوجيات التي تبنتها هذه الانواع من الجماعات متعددة، تبدأ من استغلال فقرهم عبر ايديولوجية شيوعية، وتمر باستغلال حاضرهم السياسي باستغلال قوميتهم، انتهاء بالجماعات الشمولية التي تستغل دين الناس من أجل السيطرة عليهم وتوجيههم لأغراض سياسية، أي الجماعات الإسلامية.
وعلى رغم أن النقد الموجه والفاضح للعلماء الذين تحولو عن محاولة تبيين والكشف عن مراد الله إلى عسف الدين وقولبته بما يتناسب مع رغبات السلطة وتطلعاتها كان كثيفا وثريا، إلا أن توجيه مثل هذا النقد للعلماء المنحازين والمحسوبين على هذه الجماعات كان شحيحا باهتا. وهذا يعود في جزء منه إلا أن هذه الجماعات كانت حديثة نوعا ما إذا ما قورنت بقدم ميدان السلطة والسياسة نفسه، وفي جزء آخر يعود إلى أنه نظرا لكون هذه الجماعات كانت دوما في خانة المعارضة فإن علمائها استطاعوا اخفاء مصالح (الجماعة) التي يقومون بالتعبير عنها في فتاواهم وذلك بتغليفها بإنها إنما معبرة عن مصالح ومطامح (الأمة) ككل.
إن النقد الذي تم توجيهه لمفكري هذه الجماعات، أمر مختلف تماما عن نقد الانتاج الفقهي والوعظي المنحاز لها. ففكر هذه الجماعات، والذي نال حظا وافرا من الدراسة والبحث، ولأنه فكري، فهو في طبيعته أقرب للنخبوية من كونه شعبويا. في حين أن الفتاوى والمواعظ التي ينتجها علماء ووعاظ هذه الجماعات هي في حقيقة الأمر أدوات السيطرة الأيديولوجية الموجهة للجماهير، وهي التي غالبا ما يتم تجاهلها عند نقد هذه التيارات.
إن علماء الجماعات الإسلامية الشمولية، وإن تشابهوا في جوانب مع علماء السلطة أو العلماء المتعصبين لمذاهبهم، إلا أنهم يختلفون عنهما جذريا. فعالم السلطة إنما يتوجه بفتاويه إلى الحاكم ليبرر له الأفعال والممارسات التي يقوم بها، وهو غالبا يكون بلا رصيد أو قيمة عند اتباع الدين. وأما المتعصب لمذهبه فيقوم بتقديم آراء شيوخه على الأدلة والبراهين، أي يلغي العقل لصالح التقليد، مما يؤدي غالبا إلى الجمود والتخلف على أتباع الدين. في حين أن علماء الجماعات الإسلامية الشمولية ليسو مجرد مبررين للممارسات السياسية ولا محض متعصبين لآراء قديمة بقدر ما هم مشغولين بالسيطرة على الجماهير عبر توظيف الفتاوى والمواعظ لأجل عزلهم عن واقعهم- والذي بعشوائية أحداثه وتعدديتها الغير مترابطة يكون دوما مقلقا للجماهير- وذلك بربط مخيلتهم بصورة للعالم متماسكة وبسيطة تتجلى فيها صورة مزيفة للغايات والأعداء والأصحاب بشكل واضح وجلي.
وأخيرا، لا شيء أكثر إساءة وتشويها للبشر من تحويل دينهم إلى أيديولوجية. فعملية التحويل هذه لا تقتل فقط معنى الدين في نفس الإنسان باعتباره علاقة بين الفرد وربه في المقام الأول، بل أيضا تقتل فيه حسه السليم واستقلاله الفكري، بل نفسه نفسها ليغدو جسدا بلا روح على استعداد للقيام بأي شيء. أن يتحول الدين إلى أيديولوجية شمولية لا يعني أكثر مما تعنيه كل أيديولوجية شمولية: إلغاء تعددية الإنسان وتنوعه، وتحويل البشر المتنوعين إلى نسخ متكررة من فرد واحد لأجل أن يتم السيطرة عليهم، أي إلغاء حريته في النهاية، الحرية التي بدونها تسقط عن المرء كل تكاليفه، إذ يغدو في حالة أشد بؤسا من حالة المكره أو المحصور.