بعد إعلان قرابة ثلاثة آلاف من قادة وشيوخ قبائل وسياسيين في إقليم برقة بليبيا «إقليم برقة إقليماً فيديرالياً اتحادياً» يوم 6 آذار (مارس) الماضي، جاء رد الحكومة المركزية سريعاً برفض هذا الإعلان والتأكيد على التقيد بالخطة المقررة لصياغة دستور البلاد الجديد… إننا نشهد هنا بوادر صراع دستوري جديد يختلف تماماً عن الصراع الذي دار ويدور في مصر حول «المواد فوق الدستورية»، إذ إن هذا الصراع ليس صراعاً حول من يكتب «دستور» الدولة المركزية، بل هو صراع على وجود «الدولة المركزية» ذاته. وقبل أن نستعرض حجج الطرفين ومعنى هذا الصراع لابد أولاً من إزالة لبسين اثنين حول هذا الموضوع.
الأول: هو تصوير إعلان الفيديرالية أنه «انفصال» عن الدولة، ويتجلى هذا اللبس في خطبة «يوسف القرضاوي»، الذي دعا أهل «برقة» للعدول عن الخروج عن ليبيا والعودة إليها. فالفيديرالية هي «اتحاد» بين وحدات سياسية مختلفة وتوزيع للسلطات بينها، ولكنه ليس انفصالاً بأي معنى، هو تأكيد على التمايز ضمن الاتحاد، لا على الافتراق بعد الوحدة، أما الثاني: فهو تصوير إعلان الفيديرالية أنه «خطوة أولى نحو تقسيم ليبيا»، وهو ما ألمح إليه مصطفى عبدالجليل مهدداً باستخدام القوة لمنعه، ويعمل هذا التصوير عبر استدعاء عقلية مؤامراتية تفترض وجود جهة ذات قدرات هائلة تستطيع التحكم بالأحداث وصناعتها من بعد. وهذان اللبسان يعودان في مجملهما إلى ثلاثة جوانب: إلى هيمنة نموذج الدولة المركزية الأوروبية على العالم العربي، بحيث لا يظهر النموذج الفيديرالي باعتباره شذوذاً وإضعافاً للدولة، وإلى تأليه فكرة «الوحدة» المنبثقة من أدبيات الأحزاب القومية والحركات الإسلامية التي واجهت بها الدول العربية القطرية لإفقادها شرعيتها، باعتبارها تقسيماً استعمارياً لوحدة سابقة مفترضة، وعائقاً عن الوصول إليها، وأخيراً إلى التراث الإسلامي الضخم الذي يكرس مركزية الإمامة ولم يعرف إلا نادراً رؤى حول توزيع السلطة.
ومهما يكن من أمر، فإن الشرعية التي انطلق منها المطالبون بالفيديرالية هي شرعية دستور الاستقلال عام 1951، الأمر الذي يقتضي اعتبار الثورة ليست شيئاً سوى عملية تصحيح للانحرافات التي حدثت من ثورة الفاتح، وحكومة القذافي، وعودة للحال الدستورية السابقة عليها مع مراعاة التغيرات الطارئة، مستدلين في ذلك على أن العلم المرفوع في الثورة إنما كان علم الاستقلال بألوانه الثلاثة التي تشير إلى الأقاليم الفيديرالية الثلاثة. وبالمقابل، أصر الرافضون للفيديرالية على الانطلاق من شرعية الثورة نفسها، وأنها بنفسها تمثل قطيعة مع الماضي وبداية جديدة لدولة جديدة. كما أن الخلاف بين الطرفين يخفي خلافاً على المصالح الاقتصادية، إذ إن الفيديرالية تعطي لإقليم برقة تفوقاً اقتصادياً، كون النفط موجوداً فيه، في حين المركزية وعبر قانون الانتخابات أبدت تحيزاً لترجيح كفة المركز على الأطراف.
وبغض النظر عن وجود جماعات مصالح متعارضة تغلف كل واحدة منها سعيها لمصالحها بهذا المطلب أو ذاك، أو بالاستناد إلى هذه الشرعية أو تلك، إلا أن الخلاف بين نموذج الدولة الاتحادية والدولة المركزية إنما هو خلاف بين رؤيتين لمعنى السلطة نفسه. فالدول المركزية التي تتبنى النموذج الأوروبي للدولة – الأمة تنبثق في رؤيتها للسلطة بأنها لا تقبل التقسيم، وأن تقسيمها يعني إضعافها، وتتقوى أكثر كلما كانت مركزية أكثر، هذه الرؤية للسلطة تخلط بينها وبين البطش، فالبطش وحده، ولأنه يأتي من الحاكم للمحكوم بغير إرادة المحكوم، ويُفرض بالقوة وعبر أدوات العنف، يضعف إن لم يكن مركزياً وكلياً. وبالمقابل، فإن الدولة الاتحادية على النموذج الأميركي تنبثق من رؤية أن السلطة تنبع من اجتماع الناس مع بعضهم البعض، وأنها وإن وجدت مع البطش إلا أنها مختلفة عنه، وأن السلطة إذا قُسّمت تتعاظم، ولهذا نجد انقسام السلطات هناك إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية، وتمييز سلطة الحكومة الفيديرالية عن سلطات الولايات، وسلطة حكومة الولاية عن سلطة المقاطعات، ولا يحق لسلطة أن تستخدم العنف لإلجام السلطة الأخرى، ولكن السلطة لا تُلجم إلا بسلطة مقابلة، في ما يعرف بنظام الرقابة المتبادلة (check and balance).
إن الثورة إنما قامت بفضل هذه السلطة نفسها، عندما اجتمع الناس سوية وعملوا مع بعضهم البعض، وعلى الثورة الحفاظ عليها وألا تحولها إلى بطش مقنن بالقانون ومحدود بعدم التعدي على الحريات والحقوق الفردية، والحفاظ عليها يكون بالتوافق على تقسيمها وتوزيعها بما يدفع لزيادة سلطة الكل في النهاية، وكيلا يتكرر ما حدث في العراق مرة أخرى، يجب أن يكون واضحاً دوماً أن فيديرالية السلطات المتنوعة شيء، وفيديرالية الطوائف المذهبية أو العرقية أو القبلية شيء آخر، إذ إن الأخيرة ليست إلا هدنة موقتة بين جماعات سياسية دهست على المواطنة المشتركة وتنتظر أية فرصة سانحة لتسحق الجماعة الأخرى، وأن نجاح الليبيين على التوافق لاستحداث أول نموذج اتحادي ديموقراطي في المنطقة، كفيل بفتح الباب أمام تكرار التجربة لكون هذا النظام أفضل بكثير من آلة البطش المنظم، أي الدولة المركزية.