هناك حالة من انعدام الثقة بين القوى الديمقراطية العلمانية واللبرالية وبين الحركات الإسلامية. وفي اعتقادي أن نسبة كبيرة من انعدام القدرة على التواصل بين الطرفين لم ينشأ من تمايزات فكرية وأيديولوجية بقدر ما يتحدر من انعدام الثقة هذا. ولأن كنت لست في المقام الذي يمكنني من الحديث باسم الإسلاميين وفهم أسباب عدم ثقتهم بغيرهم، فإني أستطيع أن أقدم جوانب ثلاثة تنطلق منها القوى الديمقراطية العلمانية والليبرالية في توجسها من الإسلاميين.
أولى هذه الجوانب هو أن هذه الحركات هي في غالبها حركات (محافظة) في نظرتها للقضايا الاجتماعية ومسألة الحريات عموما. والذي يرى في هذه المحافظة مشكلة هم الليبراليون في الغالب، الذين لا ينظرون إلى الديمقراطية إلا باعتبارها حامية للحقوق والحريات الفردية، وأنها وسيلة لليبرالية كي تسعى لتقليص تدخل الدولة في تقنين سلوك الفرد الاجتماعي. ولعل هذا السبب، انطلاقا من معطى أن الحركات الاسلامية ذات امتدادات شعبية هائلة، في كون اللبراليين ينفرون من الديمقراطية لأنها قد تأتِ بإسلاميين يفرضون مجموعة من القوانين المحافظة اجتماعيا، ويكونون على استعداد للتحالف مع الأنظمة المستبدة اذا كانت تفسح المجال لهذه الحريات الفردية في المجال الاجتماعي. وهذا الموقف في اعتقادي لا يهدد الديمقراطية كنظام بقدر ما يهدد اللبرالية كأيديولوجيا، وعند هذا المستوى يصبح قلق اللبراليين غير مبرر، ولا بد من ترك حسم المسألة لمن يستطيع اقناع الناخبين بالتصويت له.
الجانب الثاني الذي يثير توجس القوى الديمقراطية من الحركات الاسلامية والذي باعتقادي يتناول أساس الديمقراطية، هو أن الحركات الإسلامية قدمت نفسها وتقدم كحركات عابرة للدولة الوطنية، أي أنها تتبنى هوية متجاوزة للدولة التي تعتبرها محض صناعة استعمارية ذات حدود مفتعلة. وبغض النظر عن صحة هذه الدعوى، فإن هذا الأمر يطرح خطرا حقيقيا يحيط بالنظام الديمقراطي ما إذا قررت هذه الحركات السعي لصالح (المسلمين) و(الوحدة الإسلامية) على حساب حقوق وحريات أبناء الدولة. خطر من النوع الذي يشابه ما قامت به الاحزاب القومية عند استيلائها على الحكم في سعيها لتحقيق الوحدة العربية على حساب حقوق وحريات ابناء الدولة القطرية أنفسهم. وعند هذا المستوى، تصبح هذه الحركات مطالبة بأن تقدم ما يطمئن الجميع إلى أنها لن تجعل من أحلامها الأممية مبررا لاضطهاد المواطنين والتفريط بحقوقهم. هذا طبعا لا يعني أن تتخلى عن هذه الأحلام، لكنه فقط يعني أنها ستتعهد أنه لن تقوم بما يخل بالنظام الديمقراطي في سعيها الحثيث من أجل تحقيقها.
الجانب الأخير من الجوانب التي تثير خشية الديمقراطيون العلمانيون هو خيفتهم من حلم هذه الحركات في استعادة الخلافة، أو بناء دولة اسلامية…..إلخ. فهذه الدعوات، والتي بتجذرها في الخطاب الاسلامي الحديث، تشير، إن كانت تشير إلى شيء، إلى نظام حكم تتم ادارته من قبل هذه الحركات، أي إلى نظام حكم غير تعددي ولا يؤمن بتداول السلطة. ولعل بداية تشكل هذه الحركات جاء كنتيجة مباشرة أو ردة فعل على انهيار الخلافة العثمانية في مطلع القرن المنصرم، مما إدى إلى تحول مقولة استعادة الخلافة إلى مقولة تأسيسية في خطاب هذه الحركات. ومن جوهريته هذه تنبعث كل الحساسية التي تثير مخاوف القوى الديمقراطية، وبالتالي فإن النظام الديمقراطي يصبح مهددا بالانهيار في حال تحولت هذه المقولة إلى مشروع عمل، مما يدفع هذه الحركات إلى أن توضح موقفها بشكل واضح من تأسيس (دولة إسلامية) بطريقة تقطع الشك وتزيل مخاوف الفرقاء الذي تتشارك معهم في بناء دولة المستقبل.
وبحسب فهمي، فإن هذه الحركات عندما تقوم بتأكيد وطنيتها- كنقيض لأمميتها- وديمقراطيتها- كنقيض ليوتوبيا الخلافة الاسلامية- أي إذا تحولت إلى أحزاب اسلامية ديمقراطية وطنية، فإنها في هذه الحال ستواجه معضلة كيفية تمييزها عن أي حزب يميني أو محافظ تقليدي في أي نظام ديمقراطي. وبين مطرقة الجماهير والاممية والايديولوجيا وسندان احترام حدود العمل السياسي في النظام الديموقراطي تصبح هذه الحركات في وضعية حرجة. والاكيد أن خيارها الذي ستتخذه سينعكس على مستقبل التجربة السياسية نفسها طالما أنها ما زالت تجربة وليدة. هذه باعتقادي هي أهم مصادر التوجس الخيفة التي تؤسس لحالة عدم الثقة من قبل القوى الديمقراطية العلمانية والحركات الاسلامية، ولكن يا ترى ما هي بواعث المخاوف الاسلامية من هذه القوى؟ هذا ما يتطلب كاتبا إسلاميا لأن يقوم بتعداده لنا.