في ميدان العلاقات الدولية، توجد العديد من النظريات التي تفسر وتحلل علاقات الدول والمنظمات السياسية بعضها البعض، وكلها قابلة للتوظيف والمناقشة والنقد والإثراء. لكن هناك دوما فرق بين (نظرية) سياسية في العلاقات الدولية، وبين دعاية سياسية (بروباجندا) تلغي الواقع القائم بكافة توازناته الاقتصادية والاجتماعية وسياقاته التاريخية لتخترع عالما جديدا يتناسب والأغراض الذي من أجله وضعت هذه الدعاية. وككل دعاية، فهي تخاطب في الإنسان عواطفه ومخاوفه أكثر من كونها تخاطب عقله. ومن هذه الزاوية فهي لا تقنع إلا جمهورا محددا من أولئك الذين لم يكوّنوا رأيا صلبا أو ليس لديهم علما كافيا. وهي بالطريقة البسيطة التي تصور بها الواقع الجديد بارجاع الشر كله لجهة واحدة وتصوير كل الاحداث أنها نتاج مكائدها واحقادها ومؤامراتها، تجد قبولا كبيرا لدى هذا الجمهور الذي يحب التفسيرات البسيطة والساذجة لعالم شديد التعقيد. وككل دعاية أيضا، فالدعاية السياسية لها مروجوها وداعموها ومنظروها، والذين قد يكونون على وعي بما يقومون به من تزييف أو على غير وعي. وأحد أشهر الأمثلة الصارخة التي نسمعها كثيرا هذه الأيام هي الدعاية السياسية التي تبث الرعب في العرب عموما وعرب الخليج خصوصا من مشروع (صفوي) يهدد وجودهم.
تقوم هذه الدعاية على الجمع بين العوامل التالية: الدور المتعاظم لجمهورية إيران الإسلامية في المنطقة (البرنامج النووي، والتحالف مع سوريا، نفوذها المتصاعد في العراق، دعم حزب الله وحماس، احتلال الجزر الثلاثة…إلخ)، الطائفية السياسية ضد التشيع الذي – ببساطة متناهية- يجعل إيران ممثلة لكل شيعي بغض النظر عن جنسيته مما يسهل تصوير مواطني الدول العربية من المذهب الشيعي كطابور خامس وعملاء، استغلال بعض المواقف والصفقات السياسية الإيرانية (كالتواطؤ الصامت بينها وبين الولايات المتحدة في حربي أفغانستان والعراق، وصفقة الأسلحة (إيران جيت)…)، واستغلال بعض التصريحات الفضائية لشخصيات دينية شيعية أو إيرانية وتصويرها كبيانات سياسية، والأخبار المتناقلة عن عمليات التشييع في المناطق العربية كالمغرب ومصر، والتذكير دوما بدعاوى (تصدير الثورة) التي كان يدعو لها رجال الثورة الإيرانية بعيد قيامها. بعد إلصاق هذه العناصر معا بصمغ ذا طبيعة مؤامراتية عالية، يتم استنتاج هذا (المشروع الصفوي) الذي يتم تصويره تهديدا لوجود سنة العرب، إما تهديدا عسكريا باعتبار هدف هذا المشروع احتلال اراضيهم، أو تهديدا ثقافيا باعتبار هدفه تحويلهم عن مذهبهم أو تهديدا سياسيا باعتبار هدفه جعل دولهم تابعة لإرادة هذه الدولة، أو كلها مجتمعة.
لا ينطلق رفض هذا الاستنتاج من إنكار لحدوث الوقائع التي يستند إليها(فلا أحد ينكر التواطؤ الذي وقع بين ايران وأمريكا في الحربين الأخيرتين)، بل من رفض للاستنباطات التي يخرج بها من هذه الوقائع لينسج بواسطتها قصته الكبرى حول هذا المشروع المتوهم. فكل استنتاج في ميدان العلاقات الدولية ينطلق من أو يؤدي إلى النظر إلى الدول الفاعلة بمنظار صراع الخير والشر، هو استنتاج دعائي يصور العالم تصويرا طفوليا بسيطا أكثر من كونه استنتاج مبني على تحليل يحصر نفسه في السياقات التاريخية المعقدة والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للأحداث. فبالرجوع للتاريخ نتعلم جيدا أن عدو الأمس قد يكون حليف اليوم وقد يكون عدو الغد، فصدام حسين الذي دعمته دول الخليج في حربه ضد إيران، وتصويره بأنه حارس البوابة الشرقية، كان هو الذي احتل الكويت لا غيره. فعملية تحديد الحلفاء والأعداء في السياسة ليست عملية ثابتة سرمدية بل هي متغيرة باستمرار، فأمريكا والاتحاد السوفييتي تحالفتا ضد هتلر، لينقلبا إلى أعداء في حرب باردة بينهما بعد انتصارهما عليه. فأنواع الأصدقاء كما يعلمنا الدرس السياسي البدائي: صديق حليف (علاقة إسرائيل بأمريكا)، صديق صديقي (اتحالف معه عندما تكون هناك مصلحة مشتركة لكن دون ثقة مطلقة به) وأخيرا عدو عدوي (تحالف امريكا وايران على عدوهما المشترك، صدام وطالبان، رغم عداوتهما لبعضهما). والمقصود من هذا الإستطراد تأكيد أن ميدان السياسية ميدان معقد لا يمكن اختصاره باللونين الأبيض والأسود أو بأطروحة صراع الخير والشر، وأنه قائم على التحالفات والتحالفات المضادة والمتغيرة باستمرار التي يحكم تغيرها المصالح السياسية والاقتصادية والعقائد الايديولوجية وغيرها.
إن التحرر من هذه الدعاية يساعد على رؤية الأمور بطريقة أوضح، وبالتالي فهمها والتفكير فيها بشكل يجعل عملية اتخاذ القرار بازائها حكيمة وراشدة. لكن في حالة دول ذات طموح متواضع بما يتعلق بدورها ورسالتها في المنطقة، يصبح هذا الأمر صعب جدا بل ينتج ضعفا يتولد منه فراغ قوة في الفضاء العربي تسعى كل القوى العالمية والاقليمية – امريكا، الاتحاد الاوروبي، ايران، تركيا، اسرائيل…إلخ – إلى سده بما يتناسب مع مصالحها وبالقدر الذي تستطيع استمالة هذه الدول إلى مصالحها. فيتحول هذا الفضاء الفارغ إلى ميدان صراع بين هذه القوى الكبرى، بما يحد من قدرات وقوى الدول العربية للحد البائس الذي يكون ذكائها فيه محصور في انتقائها لحليفها، وعظمتها تتجلى في قدرتها على البقاء.
إن مثل هذه الدعاية في حال تغلغلها وسيطرتها، تنتهي إلى تحولها إلى شماعة لاضطهاد جزء من المواطنين من منطلق طائفي، أو إلى تسابق عسكري- يعطل مشاريع التنمية في المجالات المدنية – محموم لتوقي عدو مضخم منه بشكل مبالغ فيه جدا، أو إلى اعتمادها ذريعة لإبطاء أو إيقاف عملية الإصلاح انطلاقا من الحكمة القديمة: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، حتى وإن كانت هذه المعركة تدور في الأذهان أكثر منها في الأعيان.