يعتبر تأريخ الأفكار من أكثر المجالات التي نستطيع من خلالها تبين كيف ينظر المؤرخ للإنسان والمجتمع وتفاعله مع الافكار، وكذلك- خصوصا إن كانت الأفكار معاصرة- مدى نزاهته وموضوعيته. ومن هذا المنطلق، سنقوم بجولة حول أربعة أطروحات سلفية حركية مارست هذا النوع من التأريخ، في محاولة للكشف عن المنظار الذي يرى فيه هذا التيار تاريخ “الفكر العربي”.في رسالة الماجستير المقدمة عن “العلمانية” قدم سفر الحوالي تفسيره الخاص عن أسباب نشوء العلمانية في البلاد العربية. فبعد أن قدم لمحة كاملة عن انحراف المسلمين العقدي وركودهم العلمي، أشار إلى “التقبل الذاتي للعلمانية”، عن طريق نقولات لرفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم الذين “تطوعوا بتسويغ النظم اللادينية في أمتهم وهيئوا النفسية الإسلامية لتقبلها”. بعد هذه المرحلة، بدأت المؤامرة الصليبية- اليهودية “لإخراج الامة الإسلامية من دينها… وحملها … على العلمانية” وذلك عبر أربعة طرق: الاحتلال المباشر، الاستشراق، التبشير، الطوائف اليهودية والنصرانية والباطنية. وفي الحديث عن دور نصارى المشرق يقول: “ليس غريباً أن يكون أول من دعا إلى العلمانية بشعارها الصريح، أو تحت أسماء أخرى كالقومية والوطنية هم نصارى الشرق، فإن الحياة المطمئنة التي كفلها لهم المجتمع الإسلامي -بل المحاباة الزائدة في الكثير من الأحيان- لم تكن لتطفئ نار الحقد المتأججة في صدورهم”، ثم راح يعدد جهودهم السياسية والفكرية في المشاركة في هذه المؤامرة الكبرى ضد الإسلام.
وفي دراسته المشهورة “الحداثة في ميزان الإسلام” يقدم عوض القرني تحليله الخاص عن الطريقة التي قام بها “المنهزمون فكريا” بنقل “وباء الحداثة” إلى الديار العربية بعد أن رُفضت فيها. تمثلت الطريقة بإيجاد جذور للحداثة “عند فساق وزنادقة وملاحدة العرب في الجاهلية والإسلام “، كما أنهم وجدوا عند أولئك الذين خلفهم الغربيون ” في بلاد المسلمين أبناء لهم يخدمون فكرهم ويحققون أهدافهم، فهم لهم منابر دعاية وأبواق تضليل، أمثال طه حسين، وسلامة موسى ولطفي السيد، وعلي عبد الرزاق، ولطفي الخولي، وساطع الحصري، وشلبي شميل وجورجي زيدان، وقسطنيطين زريق، وأمثالهم كثير، كل هؤلاء وجد فيهم الحداثيون إرهاصات وبدايات مهدت لظهور الحداثة المعاصرة، بل إنها البداية الحقيقية لها، وبداية حلقات سلسلتها التي ربط عراها الشيطانُ الحداثي الأكبـر أدونيس .”
ويعقد سليمان الخراشي في “العصرانية قنطرة العلمانية” تحليله التاريخي لكيفية انحراف وتغريب المجتمع المصري، بعد أن عجز الغرب عن ذلك بواسطة الاستهداف المباشر، فلجا إلى “إلى خطة أكثر مكراً، وأشد ضررًا، وهي تكرار محاولة الغزو للمجتمع المصري بواجهة إسلامية (مخدوعة) يتقبل الشعب المسلم اطروحاتها وأفكارها التغريبية دون نفرة أو استيحاش؛ يخلخلون بها وحدة المجتمع المصري المسلم؛ بتهييجه على ولاة أمره، إضافة إلى صرفه عن العلماء الكبار الراسخين الذين يصعب تطويعهم. وقد تم لهم ذلك من خلال ما يسمى (بالعصرانيين) أتباع مدرسة الأفغاني ومحمد عبده الذين ظنوا بجهلهم أنهم يخدمون الإسلام والدعوة بصنيعهم هذا، ويوفقون بين أحكام الشريعة ومتطلبات العصر …”.
والنموذج الاخير، والأحدث، هي دراسة إبراهيم السكران الاخيرة عن “مآلات الخطاب المدني”. حيث جعل العام الذي أصدر فيه نقد العقل العربي للجابري، هو العام “الذي دشن العهد الجديد لتلمود العلمانية العربية التوفيقية “. وهو العام المفصلي لانتقال العلمانية العربية من “التحول من (الاستهداف المباشر للشريعة) إلى (إعادة تفسير التراث) من خلال الأدوات التي تطرحها العلوم الإنسانية الحديثة”. والهدف الأساسي لهذه العلمانية/الفرنكفونية الحديثة، هو أنها تسعى إلى “تهتيك الوشائج بين القواعد الشبابية الإسلامية وبين نماذجها الملهمة التراثية والمعاصرة وذلك من خلال خطاب الأنسنة”.
بعد هذا العرض، نلاحظ أن هناك سمات واضحة لمجموع القراءات التاريخية السابقة، وهي: أنها تحكم على جميع ألوان التيارات الفكرية “المخالفة” في الفكر العربي أنها نتيجة لمؤامرات غربية، كما أن روّاد هذه التيارات إما خونة وعملاء أو مغرر بهم سفهاء؛ وأخيرا، أنها تغفل إغفالا تاما تعقيدات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تشكلت فيه هذه التيارات. ومن خلال هذه القراءات كذلك، نستطيع تبيّن طبيعة الذهنية التي أنتجته، أنها ذهنية تعظم الغرب أكثر مما تتهم غيرها بهذا التعظيم، إذ أنها تنسب إليه قدرات سحرية خارقة في التلاعب بالمجتمعات العربية والإسلامية، نافية تماما أي فاعلية وحيوية لهذه الأخيرة. وفي نهاية التحليل: هذه القراءات السلفية الحركية، لا تؤرخ للأفكار بقدر ما تقوم بتشويهها، هي لا تقيم مدونة تاريخية بقدر ما تصك أحكام إدانة لمجمل الفكر العربي، في عملية تنكّر كاملة لكافة هذا الانتاج الغزير.
وعندما أخصص “السلفية الحركية” بهذا التشويه، فذلك لأن التأريخ السلفي التقليدي كان أكثر نزاهة وموضوعية منها. فابن عبيد، على سبيل مثال، عندما وصل في تاريخه “تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الواحد الديان” إلى العام 1323هـ قال: “وممن توفي فيها … الشيخ محمد عبده المصري رحمة الله عليه … هو العالم الشهير والحبر النبيل والبحر الغزير كان أحد أركان النهضة العربية…”، ثم ذكر بعدها شيئا من سيرته ومرثية حافظ ابراهيم.
وأنا هنا لا أطالب بصف المدائح والثناء لهذا الموروث الثقافي الذي أنتج على مدار قرن ونصف من الزمان، بقدر ما أطالب أن تتم قراءته قراءة جادة ونقدية عادلة، تسعى لفهم أسبابه الحقيقية بربطها بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتقويم منتوجه بمعزل عن رهاب المؤامرة. هذا ما أطالب به، لا التجني عليه والاكتفاء بترديد النظرية التبسيطية التافهة: فكر مخالف، إذن هو صنيعة غربية!