يقول جورج قرم: “لم تكن هزيمة 1967 هزيمة للعرب أمام اسرائيل فحسب، بل كانت ايضا هزيمة لليسار العربي في مواجهة القوى المحافظة، أي، بصورة رئيسية، هزيمة مصر الناصرية، العاملثالثية، الشعبوية، الاشتراكية، وللقومية العربية في مواجهة الملكية السعودية المحافظة، المؤيدة للغرب والداعية للجامعة الإسلامية.”.
والتيارات الفكرية تتلاشى بطريقين: بأن تفقد دعم السلطة ويبدأ جمهورها بالتقلص، فتتلاشى شيئا فشيئا مع مرور الزمان. أو، وهذا الطريق الثاني، أن تتحول السلطة التي ترعاها وتؤيدها إلى عدو لدود لها يقمعها ويحاربها ويغتالها، وهذه الأخيرة هي التي حلّت باليسار العربي في الأعوام الثلاثة التي تلت هزيمة حزيران.
في تلك الفترة التي كانت الثورة الثقافية الصينية تخلب الألباب، بينما ترتفع بطولات الفيتناميين امام الترسانة العسكرية الأمريكية لتصل عنان السماء، وهناك في بوليفيا يموت سيد شهداء العصر تشي غيفارا! وكذلك كانت تشيكوسولفاكيا وتشيلي وباريس يستعر فيها اليسار… فقد كان العالم كله يواجه رفض يساري تحرري امام كل الامبرياليات والتخلف الذي يعاني منها الإنسان المسحوق في كل مكان!
في العالم العربي كان اليسار العربي الذي وصل إلى سدّة الحكم في العراق مع ثورة عبد الكريم قاسم، وكان الايديولوجيا الحاكمة لحركة التحرير الفلسطينية، وهو التوجه الذي نحت إليه الناصرية منذ فضّ الوحدة مع سوريا وبدء حرب اليمن مع السعودية. وأخيرا، شكل الانتصار الثوري للجزائريين في حرب استقلالهم ضد الفرنسيين نموذجا لنجاح مواجهة شعبية لجيش نظامي مسلح بأحدث الاسلحة.
في مثل هذا الجو الملبد بالغيوم الحمراء، جاءت هزيمة 67، وما توافق عليه العرب في مؤتمر الخرطوم، لتعلن كافة الحركات والفصائل اليسارية رفضها الجذري للسلطات القومية والملكية، ورفضها لكل من الغرب والسوفييت الذي حملته مسؤولية الهزيمة. ونشأت على إثر هذا التحول علاقات واسعة بين هذه الفصائل والالوية الحمراء التحررية في فيتنام واليابان وإيران وغيرها.
نشطت هذه الفصائل وزاد غليانها الثوري في كل من الأردن ولبنان، ومن هنا تبدا قصّة النهاية، فعوضا عن أن تتحالف مع السلطات القائمة وتصب جام غضبها على العدو الحقيقي: اسرائيل، قامت الفصائل الفلسطينية في الإردن بإعلان أن الاراضي التي تقبع فوقها “أراض محررة”، وقامت باختطاف أربعة طائرات. وكانت تقيم نقاط تفتيش وتجبي ضرائبا سمتها “ضرائب القضية الفلسطينية”، ورفض كبار قيادي اليساريين المتطرفين اتفاقية روجرز، وشنوا هجمات فدائية على الاسرائيليين مما قاد إلى معركة الكرامة، عام 1968، التي حدثت في مدينة الكرامة التي اجتاحها الجيش الاسرائيلي بحجة استئصال الارهاب، فدافعه كل من الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية. انتصر كل الجيش الأردني والقوات الفلسطينية على الجيش الإسرائيلي، ولكن ياسر عرفات جيّر النصر له، فارتفع نجمه مما أدى إلى استقالة الشقيري رئيس منظمة التحرير، وتسلم عرفات رئاستها.
تحولت الفصائل اليسارية إلى دولة داخل دولة في الأردن، وناصبت الفصائل الملكية الهاشمية العداء، مما قادها إلى محاولتي اغتيال فاشلتين للملك حسين، بعدها بدأت في الأردن في أيلول من عام 1970حرب شبه اهلية بين الفصائل الفلسطينية والجيش الأردني، خلفت العديد من القتلى من كافة الأطراف، فيما عرف فيما بعد بـ “أيلول الأسود”
.كان الهاجس الأساسي الذي يحرك هذه الفصائل هو “تحرير فلسطين”، وكان لهذا التحرير طريقين: عن طريق الدول القائمة وجيوشها النظامية، وهذه هزمت هزيمة ساحقة في 1967. فلم يتبق إلا التحرير الشعبي عن طريق حرب العصابات، التي كانت الثورة الجزائرية والحرب الفيتنامية إحدى نماذجه. وكان هذا خيار مرفوض تماما من قبل الدول العربية المحيطة بإسرائيل، من منطلق أن المنطقة العربية مفتوحة وليست أدغالا كما هو الحال في فيتنام، وبالتالي لا سبيل سوى الجيش النظامي. ولكن مشكلة ضعف هذا الأخير أنه لم يجهز تقنيا من قبل الدول الصناعية العظمى، كما هو الحال بالنسبة للجيش الإسرائيلي. هذه الحجة هي التي تذرع بها عبد الناصر والسادات من بعده.
أما اليسار العربي، فقد اعتبر الأمر “تمويها” للمشكلة الحقيقية، فالدول العربية القائمة التي هي عبارة عن مجموعة من العسكر مدعومة من قبل القوى الامبريالية والمؤيدة من قبل المؤسسات المحافظة التقليدية، تخشى أي حربا شعبية، لما تحمله من نزعة تغييرية قيمية تشمل كافة الحالة العربية القائمة بمؤسساتها ودولها وتبعيتها. لكن اليسار العربي لم يجد الفرصة لتحقيق مقولاته لانعدام القاعدة الاجتماعية المناسبة له، وتقلص وجوده ومكتسباته منذ أيلول الأسود.
فبعد تلاشي اليسار في الأردن، فشل الانقلاب الذي قاده بعض أفراد الحزب الشيوعي في السودان، مما حدا بالرئيس السوداني إلى عملية قمع جذرية لوجود هذا الحزب في السودان. وأعلن معمر القذافي الذي انتزع السلطة اواخر الستينات نفسه كعدو لدود للماركسية والاتحاد السوفيتي. أما السادات الذي تولى حكم مصر بعد وفاة عبد الناصر، فإنه قام بدعم القوات اليمينية والإسلامية ليضرب بها التيارات اليسارية، بالإضافة إلى التقارب الشديد الذي قام به مع السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، والابتعاد الحاسم عن الاتحاد السوفيتي عبر طرد الخبراء العسكريين السوفييت. وفي سوريا، أدى استيلاء حافظ الأسد على السلطة، وهو الذي رفض مساندة الجيش السوري للفصائل الفلسطينية في الأردن، أدى هذا الاستيلاء إلى قمع وتطهير البعث من التيار اليساري.
أما في الجزيرة العربية، فقد قمع الملك فيصل بحزم كل محاولة تشكل يسارية او قومية، وامتلأت السجون السعودية بجميع من شارك بالمحاولات اليسارية الحزبية السرية في السعودية. اما في الكويت، فقد كانت تعيش مرحلة قومية صرفة، خصوصا بعد استقلالها عن البريطانيين، ففيها تأسست حركة فتح، وفيها كان معضم الكويتيين القوميين يطالبون الإمارة بالانضمام إلى الدولة العربية الموحدة، ولكن الرفاه الناتج عن العائدات النفطية، حال دون تشكل توجه يساري جذري يقوم بدور عملي تغييري. وعلى الكويت أن تنتظر عام 90، لتكفر بالقومية بعد اجتياح العراق لها، وتعود من جديد للحماية الأجنبية، ولكنها أمريكية هذه المرة. أما التمرد اليساري في ظفار، فقد تم قمعه بشكل منظم بمساعدة من المملكة السعودية، التي ستخوض حربا في اليمن نصرة للإمامية الزيدية، ضدا على القوى الاشتراكية والقومية المدعومة من النظام الناصري.
وفي المغرب، كانت الملكية المغاربية التي استقلت نتيجة تلاحم القوى اليمينة والتحديثية، ترفع راية الإسلام متوافقة ضمنيا بذلك مع التوجه السعودي العام. اما الجزائر فقد تخلت عن الدعاية اليسارية، وتوجهت إلى التحديث الاقتصادي والتنموي مستفيدة من المكتسبات النفطية الهائلة التي تتربع فوقها. وفي تونس تم الغاء نظام بن صلاح الذي نادى بنوع من الاشتراكية الزراعية، وتوجه النظام إلى موالاة الغرب.
هكذا ومع مطلع السبعينات تلاشت كل مقومات الوجود الفعلي لليسار العربي، وتحولت كافة بلدان العالم العربي لليمين، مما كفل لها بقاءها في السلطة، فبعد ان كانت المنطقة العربية مشهورة بتقلباتها السريعة، نلاحظ ان رؤساء وأنظمة السبعينيات ظلت قائمة… ما عدا نظام صدام حسين الذي تم إلغاءه من قبل احتلال خارجي.
3 Responses