قبل شهر من الآن أنهى عبد الرحمن الوابلي في جريدة الوطن سلسلة مقالاته المعنونة بـ”صحرنة المدن”. وقبل ذلك، في شهر أبريل من هذا العام، أصدرت الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتابا بعنوان “السعودية: السياسي والقبيلة” للدكتور محمد بن صنيتان. رغم اختلاف هواجس البحث، والمقاربات والمناهج بين الباحثين، إلا أن الاثنين توجها بالنقد لثقافة البلدات النجدية، وحملاها مسؤولية نشوء الإرهاب، وإعاقة الخطط التنموية الخمسية، وتهميش قطاعات واسعة من المجتمع لأسباب عنصرية. والأهم من ذلك، تم تحميل هذه الثقافة مسؤولية الوقوف في وجه التحول نحو الاندماج الاجتماعي بين مختلف طبقات المجتمع، ونحو التحول إلى مجتمع محكوم بقيم مدنية ومواطنة حديثة تعود بالنفع لعموم أبناء الوطن الواحد.
يسمي الوابلي هذه الثقافة بثقافة “البلدات القبلية”، ويرجع تشكلها إلى المصيدة التي نصبتها التقلبات المناخية لقبائل الجزيرة العربية. فبعد ثورة مناخية حدثت قبل خمسة قرون انهمرت فيها الأمطار بكثافة، تسببت في سيلان الأودية، وتشكل مناقع للمياه وآبار سطحية؛ استقرت بعض تلك القبائل مشكلة أنوية لما سيصبح فيما بعد قرى وبلدات صغيرة. تفاجأ أبناء هذه البلدات بعد اتخاذهم قرار الاستقرار والانفصال عن القبيلة، بنضوب الموارد بعد عودة وتمدد أعوام الجفاف الصحراوية. فالمناخ الذي أغراهم بالاستقرار والتخلي عن حياة البداوة، هو نفسه –بعد أن أدار لهم ظهره- سيعيدهم للتمسك ببعض قيم القبيلة والاحتماء بها لمواجهة الفقر وقلة الموارد. هكذا تشكلت “البلدات القبلية” والتي تقف في المنتصف تماما بين البلدات والمدن التقليدية التي تتوفر على فائض في الموارد وأمن توفره حكومة مركزية ترتبط بها، وبين الحياة البدوية التي تعتمد التنقل والقوة والرعي كوسائل لمقاومة قسوة الصحراء.
وبسبب هذا التذبذب، نشأ أبناء هذه البلدات وهم- كما يصفهم الوابلي: “ينظرون للقبيلة على أنها حالة متخلفة على حالتهم. وينظرون للبدو نظرة دونية وفي بعض الحالات، لا يتورعون عن مناصبتهم الكره وإعلان عدم رغبتهم بهم. وبنفس الوقت، يفتخرون بانتسابهم للقبائل وبأن أصولهم قبلية. إذاً فحالة الارتباط المفاهيمي والقيمي لقاطني المدن القبلية بالقبيلة قوية جداً، وبنفس الوقت، رغبتهم بالانفصال والنأي بأنفسهم عنها قوية جداً كذلك. ولذلك خلقت لديهم حالة ازدواجية واضحة بالشخصية وارتباك ملحوظ بالثقافة. فهم ليسوا بالمدنيين كما يظهرون، وبنفس الحال، ليسوا بالقبليين كما يبطنون. وهذا راجع للكيفية التي تأسست وانبنت عليها مدنهم..”. فلأن الهدف الذي تنشده هذه البلدات، بعد تطاول عصور الجفاف، هو البقاء لا النماء، فقد انعكس هذا على الثقافة والتراتب الاجتماعي وسلم القيم الذي يحكمها. فاعتمد معيار النسب لتوزيع الغنائم، الذي أنتهى بتحكم بعض العوائل بأغلب موارد هذه البلدات. تحكم حولها فيما بعد إلى عوائل مناهضة لكل جديد قد يؤثر على دخلها، أو كل نبوغ قد يسحب البساط من تحتها، فتضافرت بذلك مع طبيعة الصحراء لتزيد عزلة أهالي البلدات عن كل شيء يحيط بهم. وهكذا انتهى بها الحال، في سعيها الدؤوب لتكريس الثبات والجمود، لسحب قداسة الدين وتوسيعه ليشمل كل أعرافها وثقافتها، التي أصبحت قداستها مساوية تماما لقداسة الدين نفسه. وفي هذا يقول الوابلي: “جاء سلوك البلدات، سلوك خالط بين ما هو اجتماعي صرف بما هو ديني صرف. أي تم تديين ما هو إنساني وأنسنة ما هو ديني. ولم يتم التفريق فيها بين ما هو علاقة بين العبد بربه، وبين ما هو علاقة الإنسان بالإنسان. فحورت الشعائر الدينية كواجهة اجتماعية مطلوبة، كما أن مظهر وملبس الشخص، الخاص به، تم تحويره لمظهر ديني مؤكد عليه. وأصبح كل غريب أو مختلف اجتماعياً، مخالفاً ومختلفاً في العقيدة. وهكذا خرج خطاب البلدات خطاباً دينياً متشدداً وضيقاً ومحدوداً، غير قابل للتطور أو التقدم، حيث حركة الحياة فيها وحراكها أمر شبه ثابت.” ويستمر الوابلي في تفسير كافة مظاهر الاقصاء والاحادية والتصلب اتجاه الآخر وهامشية الحياة الدنيا والريبة من كل جديد، كافة هذه المظاهر المنتشرة في ثقافتنا المحلية بإرجاعه لنمط الحياة والمعيشة في تلك البلدات القبلية.
وبهذه الطريقة استطاعت هذه البلدات الحفاظ على وجودها المهدد بقلة الموارد، ولكن النفط أو “الثورة الجيولوجية” –كما يسميها الوابلي- وضعت خطاب هذه البلدات وجها لوجه أمام تحد جديد: وهو فائض الموارد وتعاظمها لا شحتها وقلتها. فنتيجة لهذه الوفرة، عمدت الحكومة الاستفادة منها من أجل التنمية والتحديث، لكن البلدات وخطابها وقف ممانعا دون ذلك، كممانعته للتقنية الحديثة وتعليم النساء وغيرها… مما جعل تركز التحديث والتنمية على الشق المادي فقط، فتضخمت البلدات القبلية وتحولت لمدن قبلية، لكنها ليست محكومة بقيم المدنية والمواطنة. وتحول هذا الخطاب، بعد أن أضفي عليه في السبعينات، بتأثير من الإسلاميين العرب اللاجئين إلى الخليج، بعدا سياسيا لتنشأ عنه الصحوة، التي استولت على مختلف المؤسسات التعليمية، واستطاعت نشر خطاب البلدات في مختلف أرجاء المملكة. ويستمر الوابلي بمتابعة تحليلاته مرجعا الأعمال الإرهابية إلى ذات الخطاب، خطاب البلدات بعد أن تم تسييسه وتجييشه.
هذا نموذج للنظر، انطلق منه الوابلي لتفسير وتحليل بعض المظاهر التي نحياها الآن بإرجاعها عبر سلسلة من العوامل الداخلية إلى لحظة مناخية غائرة في القدم. وهكذا جعل الوابلي خطاب البلدات القبيلية مسؤولا عن بعض اخفاقات التنمية والارهاب وغيرها، فكيف إذن توصل بن صنيتان –بوسائل وآليات مختلفة- لنتيجة مماثلة؟ هذا ما سأجيب عنه في الاسبوع القادم…