في نهاية دراسته عن “الانسان والقرآن …وجها لوجه” يتناول احميدة النيفر أثر مناهج تفسير القرآن التقليدية والموروثة على الإيمان والتدين بأنها “تجعل إيمان المسلم (قصير المدى) لا يرى في تعامله مع القرآن إلا جانبه النفعي الخارجي. خصوصية الإيمان المتولد في رحم هذه الذهنية تقوم على الاطمئنان والترديد، وتجاهل حيرة المؤمن وتساؤلاته، وتوقه إلى الارتقاء الروحي. بذلك يتوقف النشاط الايماني عند عتبة عالم الحاجيات الظاهرية، أما ما يليه فهو ليس إلا من الوساوس التي ينبغي أن تقمع. عندئذ يتركز إيمان الوثوق واطمئنان الترديد الذي لا يفضي مع الصدمات إلا إلى أحد أمرين: اللامبالاة أو العنف، اللامبالاة ممن عجزه بارد يقينه عن أي جهد، اما العنف فممن اعتقد أن صميم التدين في التشبث للدفاع عن ظاهر المقولات ورسوم العلاقات ايا كان شكل تلك الحماية”.
هذا النص المركز العميق، تعمدت جعله مدخلا لحديثي هذا عن “التقارب المذهبي”. فالدعوة إلى التقارب، تفترض مسبقا أن هناك ثم تباعد واختلاف. وانطلاقا من هذا الافتراض، تدعو للتقارب الذي قبل أن تنطق به تكون قد وضحت كافة الاحترازات التي قد يحيل إليها اطلاق هذا المفهوم. وذلك، بأن التقارب لا يعني التمييع، وأنه لا يهدف الذوبان في الآخر، وكذلك، لا يناقض الاحتفاظ بالهوية وخصوصيتها…إلخ، وفي بعض الأحيان، يتم الاكتفاء بالمعنى المدني منه، القائم على التعايش والتسامح، دون التطرق للمجال العقدي والفقهي. والسؤال الأساسي الذي أود طرحه هنا: هل فعلا ثمة اختلاف بين هذه المذاهب الاسلامية يبرر دعوتها للتقارب؟
يجيب بـ: “طبعا، هناك اختلاف”، كل من يرى المذاهب من المنظور الأيديولوجي، بأنها متمايزة تمايزا واضحا في تصوراتها وعقائدها، ويجيب بهذا الجواب أيضا، من يتابع يوميا أخبار الاقتتال والمذابح الذي نراه اليوم انطلاقا من اختلاف الهويات المذهبية.
وأنا اتفق مع كليهما، في وجود هذه الاختلافات على المستوى الأيديولوجي، والمستوى العلاقات الاجتماعية، ولكني أزيد على ذلك بأن هذه الاختلافات ما كانت إلا لصدورها من “نظام معرفي واحد”، يفضي إلى هذه التصورات الأيديولوجية المختلفة، التصورات الصلبة والنهائية، القائمة على الترديد والوثوق، والتي –وكما وصف النيفر بالضبط- تجعل العنف في التعامل مع الآخر خيارا مطروحا على الدوام –بل هو قنبلة موقوتة برسم انتظار أي ظروف موضوعية، وذلك ليس لطبيعة الهوية ذاتها، بقدر ما هو نتيجة لذلك النظام المعرفي الموحد.
فالمشكلة على المستوى المعرفي، ليست مشكلة اختلاف، بقدر ما هي مشكلة توافق. كلا المذاهب تتلقى إيمانها، على أنه الإيمان الصحيح، المطابق لإيمان الجيل الأول. وهذا الجيل الأول، سواء تشكل على هيئة سلف القرون الثلاثة أو أئمة محاطين بهالة من العصمة أو حتى قتلى النهروان، فإنه يؤدي الوظيفة نفسها في كل المذاهب: بأنه الطريق الوحيد المفضي لحقيقة الدين، وبالتالي يضحي التمسك بكل أدواته الذهنية والمعرفية، الحقيقية أو المتصورة، أمرا لازما، بل ضروريا للوصول إلى الإيمان الحقيقي. وهنا عند محورية هذا الجيل في هذه المذاهب، يرتفع التاريخ من كونه مجال الفعل الانساني، إلى النموذج الأمثل لهذا الفعل، من مستودع للتجارب إلى التجربة الفريدة التي لا ينبغي الانفكاك عنها والخروج عن مسارها. وعند هذه المحورية أيضا، تضحي الحقيقة كيانا صلبا جامدا، أقرب للنتائج الرياضية والمنطقية، كيانا لا حياة فيه، وهنا يفقد الإيمان محتواه كطاقة روحية وفكرية. وأخيرا، نتيجة تصنيم التاريخ والحقيقة هذا، لا يبقى سوى الجمود والانحطاط… ويفقد الدين أي فعالية حضارية سوى فعاليتي العنف والموت!
وبعيدا عن المجاملات وترديد الشعارات، وهي المظاهر التي تكاد تكون سائدة في محافل التقارب المذهبي. أقول: بعيدا عن هذا كله، واقترابا من حقيقة المشكلة، فالحلول الفعلية والعملية لهذه الإشكالية تكمن في رعاية حركة نقدية شاملة لكافة هذا الموروث الديني الضخم. حركة نقدية لا تهدف إلغاؤه، بقدر ما تهدف إعادة الوصل به بآلية تفاعلية حيّة، لا آلية استسلامية تلقينية ميّته.
وهذه الاشكالية ليست اشكالية ساكنة، بقدر ما هي اشكالية تعيد إنتاج ذاتها دوما في غالبية المؤسسات الدينية والجامعات الاسلامية المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي، التي بدون إصلاحها، لا جدوى من أي عمل نقدي وبحثي، إذ أن طبيعة هذه المؤسسات في تعاملها مع أي جهد بحثي جريء هي مكافأته بسلاحها التقليدي: التكفير أو التبديع، وبالتالي تكون قد وضعت بينه وبين تحوله إلى جهد مؤثر في المنتمين إليها حاجزا اسمنتيا لا سبيل لاختراقه!
لهذا كله، لا أجد أي معنى أو حتى فائدة ترجى من دعوة للتقارب بين مذاهب، يمضي فيه علماؤها، بعد محفل ضخم تبادلوا فيه المصافحات والتحايا، إلى كراسيهم وحلقاتهم ليدرسوا طلابهم نفس الآليات المعرفية والتصورات الايديولوجية التي هي أس المشكلة!