قرأت ما كتبه بندر الشويقي – في ملحق جريدة عكاظ: الدين والحياة – عن مدى انطباق تحليل إبراهيم السكران في مآلاته على كتابات المحمود، وتسائلت حينها: ما الذي يجعل عين الشويقي مدققة ومتفحصة عندما تقرأ كتابات المحمود، في حين تصاب بالعمى، أو التعامي، عند قراءة كتابات السكران؟ بصيغة أخرى: لو طبقنا أوصاف وخصائص ما يدعوه السكران “خطابا مدنيا” على البحث نفسه، أي على المآلات: هل سنخرج بنتيجة مختلفة عن تلك التي خرج بها الشويقي؟أخطر خصائص “الخطاب المدني”- حسب السكران- أنه يقرأ القرآن “قراءة موجهة”، أي تحرف النصوص عن معانيها لمعان أخرى بغية استثمارها في تدعيم رؤية ما، كإعلاء قيمة المدنية مثلا. ونحن لا نجد هذه “القراءة الموجهة” لكلام الله كما نجدها واضحة جدا عند السكران الذي يقول عن مشركي قريش أنهم واجهوا الرسول (بأنه لا يملك “ثروة مادية” يستحق بها أن يتبعوه كما ساق تعالى احتجاجهم في سورة الفرقان بقولهم: ” أو يلقى عليه كنز، أو تكون له جنّة ياكل منها” وبعد هذه الآية مباشرة يعقب سبحانه وتعالى على هذا الاحتجاج المادي الرخيص بكونه لا يعجزه سبحانه ذلك ولكنه أراد اختبارهم وامتحانهم فقال سبحانه وتعالى: ” تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا(“. ونستطيع بسهولة تبيّن موضع التوجيه في القراءة هنا، إذ لو استعدنا السياق القرآني كاملا سنجده كالتالي: “وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنّة ياكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا”. وهذه المطالبات بهذا السياق تندرج تحت باب التعجيز، لا باب المطالبة بالثروات المادية كما يردد السكران، إذ أن المطالبة بالملك، ليست مطالبة بثروة مادية. وكلما دققنا النظر في مطالبات مشركي قريش، كلما تأكد لنا كون الهدف من هذه المطالبات التعجيز، كمطالبتهم بأن يرقى للسماء وينزل منها بكتاب. بل إن المتصفح لسيرة الرسول سيجد أنه لم يكن فقيرا أو معدما، فقد قال عنه الله: “ووجدك عائلا فأغنى”. قد يتسائل البعض: ما الذي يعمي السكران عن هذا كله ويجعله يلوي أعناق الايات هكذا؟ والجواب: هو العدسة التي من خلالها يتفحص الآيات، وهذه العدسة تتجلى في قوله: (كاد أن يكون جوهر الصراع القرآني أساساً بين “المظاهر المادية” و “المبدأ الديني” أو ما يسميه القرآن الدنيا/الآخرة). يقول هذا في الوقت الذي يعلم فيه الجميع أن الصراع القرآني لم يكن إلا بين “التوحيد” و”الشرك”!
أما الخاصية الأخرى التي يرصدها السكران للخطاب المدني، ولا يتوانى هو عن الاتصاف بها، وهي اتهامه إياهم بأنهم في قراءة التراث يعتمدون آليتي التسييس والمديونية. يقول هذا في الوقت الذي لا يكف عن التذكير بأنهم مستلبين للخطاب الذي يسميه “فرنكفوني” (=مديونية)، وأن هذا الخطاب ما كان لينشأ لولا حدث سياسي هو 11 سبتمبر (=تسييس). هل نتوسل التحليل النفسي ونقول أن السكران ما كان ينقد أحدا إلا نفسه؟ لن نخوض في هذا ولنتابع…
الخاصية الثالثة هي ما يعيبه السكران على الخطاب المدني من ولعهم وشغفهم بالغموض. وهذه الخاصية قد علق عليها نواف القديمي قائلا: “ورغم أنه انتقد لغة الغموض والتعقيد بكلام جميل… إلا أن الباحث- وللأسف- تعمد اللجوء لذات الأسلوب، عبر إيراد سيل من المصطلحات والمفاهيم الوعرة والغامضة، التي لم يتردد في استخدامها، وبكثافة. وفي أغلب الأحيان دون داعٍ بحثي أو سياق استدلالي يستلزمه البحث. إضافة لاستخدامه مصطلحات إغريقية، ثمة مقابلات عربية لها بالغة الدقة. لذا يتعثر القارئ بكثير من المصطلحات من مثل (باراديجم) ، (إبستيما)، (الأنطولوجيا)، (ترنسندنتاليا)، (المحور السنكروني والدياكروني)، (آركيولوجيا(، (الغراماتولوجيا)، (الفيلولوجيا) وسواها. إضافة لرزمة الأسماء من أمثال (سوسير)، (شتراوس)، (ألتوسير)، (فوكو)، (لاكان)، (كريزويل)، (دريدا)، (هولب)، (شاخت)، )نللينو)، (جولدزيهر) وسواهم.”.
والآن لنتسائل: لماذا يتغافل الشويقي عن هذا كله؟ بل أنه يصف الباحث بالـ”بارع” وبأنه “لم يكتب أحدٌ في معالجة تلك الظاهرة بعمقٍ وهدوءٍ مع أدبٍ وطول نفَسٍ كما فعل السكران في بحث (المآلات)”.
لا نجد جوابا سوى التردي الثقافي الذي وصلنا إليه: حيث تعصب المثقفين لتياراتهم الفكرية ولأخوتهم في هذا التيار، لا يختلف عن عصبية الجاهلية القديمة، أو حتى تعصب مشجعي المباريات الرياضية: تعصب أعمى لا يهدف إلى شيء سوى الانتصار للقريب سواء كان ظالما أم مظلوما. وفي غمرة انشغال هؤلاء بالمدح والهجاء والانتصار لبعضهم التي تذكر بأيام جرير والفرزدق، لا يجد المجتمع أحدا يناقش قضاياه مناقشة تهدف لارتقاءه وتطوره!