إن الحوار بين المختلفين ممكن دوما، ولا تنتفي إمكانيته هذه مهما اتسعت دائرة الخلاف. والحوار لا يشترط شيئا سوى استعداد المتحاورين لفهم بعضهم، وانعدام هذا الاستعداد أو عدم الانطلاق منه يعني إساءة الفهم أو الاكتفاء بالتصنيف و”النفي” عبر إلحاقهم بغيرهم… وكأن البشر يتطابقون! أقول هذا كتمهيد لأجوبتي على التعليقات الثلاثة التي أثارتها سلسلة مقالات كنت قد كتبتها قبل أسابيع عن الردة وإشكاليتها في الإسلام، وهي التعليقات التي صدرت أولا من جاري على هذه الصفحة جميل اللويحق، وثانيا من فهد العجلان، وأخيرا من مبارك المصلح.
أما اللويحق فتراوحت مقالته بين انتقاد مفاده افتقار مقالتي للحجج والبراهين واتكاءها على استدرار عطف القارئ والاحتماء خلف القيم المقدسة وبين النصح بتحري الدقة والبحث عند الخوض في هذا الموضوع. فأما نصيحته فيشكر عليها، وأما دعوى الافتقار للحجج والبراهين فقد انتفت بمجرد أن أكملت السلسلة. يبقى نقطة أخيرة وهي أن هناك حدود لحرية القول والتفكير في الشريعة، وهذا أمر نتفق عليه، بل هو عين ما يعيبه علينا اللويحق من اتكاء على القيم العامة… والخلاف أصلا حول هذه الحدود: هل هي حدود تجمع المختلفين أم أنها تتحلق كالسياج حول رأي أوحد يضحي كل من خالفه خارج هذه الحدود؟
وملخص تعليق العجلان كالتالي: فهو أولا يصف فتوى البراك بأنها بديهية ويعلمها حتى الأطفال. وبعد ذلك، يستنكر قولي بانعدام وجود فهم مطابق تماما للوحي. ثم بيّن أن الأقوال ليست أفعالا تافهة بل ينبني عليها الشيء الكثير. وبعدها أكد أن التكفير حكم شرعي، يحكم به العلماء، وهم يفعلون ذلك لأنهم تعلموا وعرفوا فلا وجود لمؤسسات ورجال دين في الإسلام. وأخيرا، يؤكد على أن التكفير ظاهرة تاريخية في سيرة النبي والصحابة، وتجسدت في “حروب الردة”. وهذه الأخيرة كنا قد علقنا عليها باستفاضة في أحد أجزاء السلسلة. أما الاحتجاج بالبديهة، وآراء الأطفال، فهو احتجاج واه.. لأنه تقرر ومنذ الرياضيات اللاأوقليدية أنه لا وجود للبديهيات، ولأن أحكام الاطفال مستقاة مما حولهم من ثقافة تقليدية، وتعليم موجّه، فالاعتماد عليها اعتماد على السطحي والتقليدي، لا على الاجتهاد والتحري. وليت الأخ العجلان وضح لي كيف يمكن أن تكون التصورات مطابقة تماما للوحي دون أن يتحكم في حصر مستوى الخلاف في دائرة محددة،وذلك عوضا عن الاكتفاء باستنكار واستبشاع ما أتيت به. ويرتبط بهذه المسألة مسألة حكم التكفير الشرعي، إذ لا خلاف حول شرعيته، ولكن الخلاف، كل الخلاف، حول هذا السؤال: من له الحق بالتكفير؟ وهذا سؤال مرتبط بالسؤال: هل يملك هذا الذي يدعي استحقاقه الحكم بالتكفير تصورا مطابقا تماما للوحي بحيث يكون المخالف لتصوره مخالفا للوحي؟ والذي أقر بوجوده هو أن هناك تصورات مختلفة للإسلام، ولكن تحويل إحدى هذه التصورات مركزا ومعيارا للحكم على التصورات الأخرى هو بالضبط ما تقوم به المؤسسات والطبقات الدينية منذ قسطنطين وحتى اليوم!
أما تعليق مبارك المصلح، فللأسف هو تعليق من لم يقرأ ما يعلق عليه، بل هو تعليق يدل على استخفافه بمن يعلق عليه. فهذا الرد الذي تفضل به كان قد كتب مثله تماما، كلمة كلمة وحرفا حرفا، وذلك في رده على تصريحات مفتي مصر في صحيفة المدينة عدد 16172، قبل 9 أشهر. فإعادة اقتباسه لرده هذا دون أي تعديل، وإيراده لنفس الأدلة التي قمنا بمناقشتها دون التطرق لما ذكرناه حولها، لا يعني شيئا سوى أن المصلح اكتفى بإلحاقي في صنف “الذين يريدون إرضاء الغرب”، دون أن يكلف نفسه عناء قراءة ما كتبته. وهنا يتضح جليا عدم الرغبة في الفهم، الذي بدونه لا تجدي أي بلاغة في الإفهام، وتبطل معه كل محاولة للحوار!
سؤال يطرح نفسه ..
هل يجب علينا تثقيف كل “متحاور غير مستعد لفهمنا” بأهمية الاستعداد لفهمنا ، ام تنصح بالانتظار فقط حتى تبدي له الأيام ماكان جاهلاً ؟