في “قراءته” للخطاب الديني التي نشرت في هذا الملحق في الاسبوعين الماضيين، توصل سعيد السريحي إلى النتائج التالية: أن الخطاب الديني خطاب يحصن نفسه عن النقد عبر التخفي خلف قدسية الدين نفسه. وأنه لا يستهدف الحقيقة، بل يحملها معه، ويطرح نفسه كبرنامج عمل، سرعان ما تتحول جماعاته إلى حركات سياسية، وأنه في النهاية خطاب يستهدف السلطة، أو حركة توظف هذا الخطاب من أجل الوصول إلى السلطة. وأن هذا الخطاب يقصي غيره من الخطابات عبر الاتكاء على شرعيته النابعة من التراث والتاريخ. وأن هذا الخطاب يوظف كل الأزمات لصالح ما يطرحه كحلول. وكذلك، أن هذا الخطاب الديني يتوجه للقاعدة الشعبية من أجل استخدامها للضغط على النخبة السياسية. وأن هذا الخطاب يحاول تبني مشاكل الواقع العصرية وطرح حلول لها للحفاظ على شعبيته…إلخ.
وهكذا تمتد استنتاجات السريحي، حتى ليظن القارئ أن كل مشاكلنا سببها هذا الخطاب، وأن هذا الخطاب له من النفوذ والقوة بحيث أنه باستطاعته الاستحواذ على كل شيء. وهكذا عبر تحويل هذا الخطاب لشماعة تتحمل مسؤولية وصولنا إلى “عصر يسود فيه التطرف والغلو وتنتشر فيه جماعات التكفير والتفجير”، وعبر تصويره كغول يهيمن على كافة أجزاء المجتمع… يختزل السريحي كل تعقيدات الواقع بإرجاع الشر كله إلى هذا الخطاب الديني.
هناك ثلاثة مشاكل منهجية أساسية في طرح السريحي، سأحاول تسليط الضوء عليها. أول هذه المشاكل هو تحميله مشؤولية الظواهر السياسية والاجتماعية، كالأرهاب، إلى منظومة فكرية كالخطاب الديني. هذا النوع من التفسير الفكري للأحداث، يعزز من انفصال الفكر عن الواقع. فعندما نرجع مشكلة البطالة مثلا إلى ثقافة القبيلة التي كانت تزدري الأعمال اليدوية والحرفية، فنحن هنا نقوم بأمرين اثنين: أننا نطرح تفسيرا لا يفضي إلى حل، أو نمهد الطريق لعملية مصادرة هذا الفكر بأكمله لأنه سبب في تلك المشكلة. وهذا تماما ما يقوم به السريحي، فهو عندما يحمل الخطاب الديني مسؤولية الارهاب، فهو إما أنه يجعل هذا الارهاب قدرا لا يمكن الفكاك منه، طالما أن هذا الخطاب: غول، له من القوة والسلطة ما يمنع تزحزحه. أو أنه يشرعن لعملية مصادرته واقصائه، انطلاقا من أن استئصال المشكلة يبدأ من استئصال اسبابها. وهذه أزمة إرجاع المشاكل الاجتماعية والسياسية لأسباب فكرية، أزمة التفسير الفكري، أنها في التحليل النهائي إقصائية هي الأخرى، وإن ملأ السريحي قراءته كلها باستشناع كون الخطاب الديني “اقصائي”. وإضافة إلى بؤس هذا التفسير، فهو يغفل النظر عن الأسباب الفعلية التي أدت لتلك الظاهرة، الأسباب “التاريخية”، التي أدت لمثل تلك الظاهرة. فلو عدنا لمشكلة البطالة وأرجعناها إلى ضعف كفاءة المخرجات التعليمية، واعتماد القطاع الخاص على رخص الأيدي الوافدة، وغيرها من هذه الاسباب التي يمكن عمليا معالجتها وحلها، فهنا يعود الفكر ليلتحم بالواقع ويصبح مستجيبا له، طارحا لحلول حقيقية لمشاكله… وهذا هو بالضبط ما يهرب عنه السريحي في طرحه عندما يرجع ظاهرة مثل الارهاب للخطاب الاسلامي، فهو باختصار لا يعالج مشكلة الارهاب بقدر: ما يمهد لاقصاء الخطاب الديني، والتستر على الأسباب “التاريخية” عن الارهاب.
المشكلة المنهجية الأخرى في تعاطي السريحي مع ما يسميه “خطابا دينيا”، هي أنه يختصه بتهم تشمل العديد، إن لم يكن كل، الخطابات الموجودة عندنا. فهل هناك خطاب غير إقصائي في أوساطنا المحلية أو العربية؟ هل النيوليبراليين مثلا ليسوا إقصائيين؟ هل يوجد خطاب لا يدعي أن بحوزته الحقيقة المطلقة؟ إن هذه السمات “الاستبدادية” لا يختص بها الخطاب الديني وحده، بل هي مزاج عام يسم بميسمه كافة الخطابات المحلية. وبرأيي أن هذا شيء طبيعي، فمن أين لنا ألا نكون إقصائيين؟ وتربيتنا وتعليمنا وواقعنا مبني على العسف والقهر ومنطق القوة والاستحواذ. نحن في فضاءاتنا الضيقة، في أسرنا، في شللنا الصغيرة، نجد صعوبة في التحاور وفي التفاهم، فطبيعي جدا أن تتشكل خطاباتنا من نفس المادة التي غذيت بها. إن ما يقوم به السريحي من حصر هذه السمات بالخطاب الديني وحده دون غيره، هو نوع من التحيز الغير مبرر، والغير علمي، والمنطلق من خلفيات ايديولوجية ينطلق منها بوثوقية لا تختلف عن وثوقية الخطاب الذي يسعى لقراءته.
ثالث مشكلات طرح السريحي مرتبطة هي الأخرى بتبنيه التفسير الفكري، وهي أنه طرح لا يفضي إلى شيء. فهو لا يحدد ما الذي يريد الوصول إليه من هذه القراءة، مما يفقده طابعه العلمي. فالطرح العلمي هو طرح يسعى لحل مشكلة، أو صياغتها بشكل يمهد لحلها… بينما طرح السريحي طرح يستغرق في إبراز كل مساوئ هذا الخطاب، دون أن يخبرنا ماذا يريد تماما، مما يحول مهمة هذه القراءة من مهمة نقدية هدفها إبراز مشكلة أو حلها، إلى مهمة تحريضية تستهدف إبراز كافة ما لا يرغب به المزاج السياسي… وإذا لم يكن الأمر كذلك فبأي معنى يمكن فهم تصوير السريحي تحول الخطاب الديني إلى خطة عمل وأحزاب وحركات سياسية وكأن هذا الأمر أمر مرفوض وخاطئ! وهذا هو المثير للانتباه في “قراءة” السريحي، أنها تتهم بالاقصائية وتمارسها، وأنها تبرز الأبعاد السياسية في الخطاب الديني ولا تتحرر منها… مما يثبت ما ذكرناه، أن ما ذكره من سمات، هي سمات “عامة” ليست خاصة بتيار ديني واحد.
دور المثقف الرئيسي أن يعبر عن هموم مجتمعه وأن يسعى لإيجاد حلول لها تساهم في الارتقاء به. وتعزيز انقسام المجتمع لتيارات متفارقة تتبادل التهم نفسها بعبارات مختلفة. وانخراط المثقفين بذلك، هو نوع من التقصير في المهمة الملقاة على عاتقهم، إذ يتحولون من موجهين للوعي إلى مضللين له.