التمييز، مهما كان نوعه، هو أحد أهم المشاكل الاجتماعية على مر العصور. والتمييز هو رفع أي اختلاف، سواء كان هذا الاختلاف مشاهدا أو متوهما، حقيقيا أو مزيفا، من كونه محض اختلاف وتنوع إلى مستوى التفاضل والتباهي. هو تحميل الفروق بين الذكر والأنثى، الأسود والأبيض، المؤمن والكافر: “حمولات قيمية” تعمق من سعة هذه الفروق، لنصل إلى أن ما يبقى في النهاية هو “ما يفرق”، ويتلاشى المشترك “الإنساني” تماما، هذا إن لم يتم احتكاره لنوع وسلبه نوعا آخر.
سنضرب بعض الأمثلة على كيف يتم التنظير لهذا التمييز: ففي مقدمة ابن خلدون، وفي المقدمة الثالثة من هذه المقدمة، نجده يربط التحضر بالاعتدال البيئي في البلدان التي تقع في المنتصف بين خط الاستواء والقطب المتجمد الشمالي. فيقول: “فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات، وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال. وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية. وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم. (كنتم خير أمة أخرجت للناس)” وبعد أن يصف الفروق بين أهل الاعتدال وأهل الجنوب الشمال يتحدث عن هؤلاء الأخيرين بأن أخلاقهم “قريبة من خلق الحيوانات العجم” و”الدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم: (ويخلق ما لا تعلمون)”.
ننتقل الآن لعالم من هذه المناطق الشمالية، من السويد تحديدا، عنينا “كارلوس لينيوس”، وهو الذي ساهم في علم تصنيف النباتات والحيوانات مساهمة فعالة. بعد أن فرغ لينيوس من تصنيف الأحياء، حاول تمديد تصنيفه للبشر، الذي لم يكتف بمجرد تصنيفهم بناء على الخصائص الجسدية، بل امتد للخصائص السلوكية والعقلية. فالأفارقة، بالنسبة له، “ماهرون في الدسائس وكسولون ومهملون… وسريعو التقلب”. في حين أن الأوروبيين لم يكونوا سوى “لطفاء، سريعي البديهة والفكر، قادرين على الابتكار وتحكمهم القوانين”. ويصل التمييز العرقي ذروته عند ما يسمى بـ”التمييز العنصري العلمي”، يقول عالم الأحياء توماس هكسلي: “قد يكون صحيحا أن بعض الزنوج أفضل من بعض البيض، ولكن لا يمكن لرجل عاقل عالم بالحقائق أن يعتقد بأن الزنجي العادي يمكن أن يكون ندا، بل متفوقا، على الرجل الأبيض العادي. ولو كان هذا صحيحا فإنه لا يعقل أن يستطيع الزنجي، بعد إزالة كل معوقاته وإعطائه فرصا عادلة دون محاباة ودون ضغط، أن ينجح في مجاراة منافسه الأبيض الأكبر دماغا والأصغر فكا في تنافس فكري لا تنافس على التهام الطعام…”.
التمييز أنواع. وهو ليس اختلاقا للفروقات، بقدر ما هو استغلال لها وتعميقها وتضخيمها بحيث يتم اختصار البشر بهذه الفروقات. فالتنديد بالتمييز ضد الأنثى، لا يعني إلغاء الفروقات بينها وبين الذكر، بقدر محاربة استغلال هذه الفروقات وتحميلها ما لا تحتمل لتكريس نوع من الطبقية الاجتماعية والوصاية القانونية. ففي تراثنا نجد مقولة غريبة تصدر من شخصية كشخصية “الفخر الرازي” يقول فيها عند تفسيره لآية ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا…) أن المرأة ليست “مخلوقة للتكليف والعبادة” وإنما خلقن “كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع” فيكون خلقهن “من النعم علينا وخلقهن لنا، وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا” ويستشهد على رأيه هذا بقوله “فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة فشابهت الصبي، لكن الصبي لم يكلف فكان يناسب ألا تؤهل المرأة للتكليف، لكن النعمة علينا ما كانت لتتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، ولولا ذلك لظهر الفساد…”.
بيتر فارب مؤلف كتاب “النوع الانساني”، عقد فصلا كاملا يبدد فيه كافة النظريات التي تؤسس لتصنيف عرقي للبشر، مؤكدا على أنها لا تنبني على أي أساس علمي أو بيولوجي. ويعتبر فارب التمييز أحد مظاهر التعصب العرقي، في حين يكون “التحيز” هو المظهر الآخر. يفرق بينهما كالتالي: التحيز يظهر كردات فعل عاطفية اتجاه من يتم اعتبارهم أقل، أو أدنى، أو غريبين… ردات فعل سلبية طبعا، تعكس ما هو مستقر في النفس اتجاههم. في حين أن التمييز هو مظهر سياسي أو اجتماعي، يتشكل من خلال سياسات الاستبعاد والانتقاء المعتمدة على نظريات متنوعة في العرق والنوع والدين والجندر وتفاضلاته.
لماذا كل هذا الحديث عن التمييز؟
لأننا ودعنا قبل يومين، يومنا الوطني، ذكرى الرابطة الأساسية التي تجمعنا كسعوديين. والحديث عن التمييز في الوقت الذي نتذكر فيه ما يجمعنا، هو تحريض على تجاوز كافة أنواع التمييز الذي نعاني منه، سواء تلك التمييزات التي تستغل فروقات موجودة وتعمقها، أو تلك التي تتوهم فروقات غير موجودة وتبني عليها مواقفها. ولعل أكبر مشكلة يمكن لأمة من الأمم أن تواجهها هي أن الفرد فيها لا يستطيع أن يتزوج من يشاء من أبناء وطنه، وذلك إما لأنه خضيري فلا يتزوج قبيلية، أو لأنه من أصول غير عربية فلا يتزوج عربية، أو لأنه شيعي فلا يتزوج سنية، أو عكس ذلك. إن كان ثمة تعريف محايد للعرق، فهو مجموعة من الكائنات الحية تتزاوج فيما بينها أكثر من تزاوجها من غيرها. مؤسسة الزواج إذن مهمة، فتفعيلها وبناءها على الهوية السعودية، الكفيل بتحطيم كافة القيود التمييزية بكافة أنواعها، هو واجب وطني. فاليوم الوطني هو احتفاء بذكرى التوحيد السياسي للمملكة، والواجب الوطني هو السعي لاستكمال هذا التوحيد بتوحيد على المستويات الأخرى، لا يقل الاجتماعي عنها أهمية ومحورية!