العادات الرمضانية لا تقتصر على أطباق محددة فوق مائدة الإفطار، أو تكاثف متابعة المسلسلات الدرامية… بل تمتد إلى تلك العادة الرمضانية الثابتة، التي لم تتخلف أبدا عن الحضور في السنوات الماضية، وهي فصل جديد من فصول الصراع النيولبرالي-الإسلامي السخيف. هذه المرة تشكلت هذه العادة بهيئة هجوم وتضخيم إعلامي مكثف لجزء من حديث للشيخ صالح اللحيدان في برنامج نور على الدرب. لست معنيا هنا بالدفاع عن الشيخ، فهو رئيس مجلس القضاء الأعلى، وإنما يعنيني هنا هو الكشف عن “تبديد الوضوح” الذي تمارسه مثل هذه الأحداث.
ففي الفترة الأخيرة تشكل وضوح عام، ساهمت فيه أزمات سوق الأسهم والتضخم الاقتصادي وغيرها، وضوح غير محصور بالنخبة، بقدر ما هو منتشر بين كافة شرائح المجتمع. وضوح مفاده: أن المشكلة التي يتوجب على الإصلاح أن يوجه جهوده إليها، إنما هي مشكلة “الحقوق والواجبات” والسعي لمأسسة حمايتها. أصبح المواطن يشعر بالحاجة لمؤسسات تحميه من المشاكل التي تحيط به، وأصبح يميز جيدا أن التضخم مثلا، ليس قدرا إلهيا، بقدر ما هو نتيجة جشع لا يشبعه شيء. هذا الوضوح هو نتيجة النكبات الاقتصادية. ولم يكن يوما نتيجة فعل تنويري من الطبقة المثقفة، أو فعل وعظي من المتدينين، بل كان دور هؤلاء افتعال أزمات ثقافية لا تفعل شيئا سوى تبديد هذا الوضوح، عبر إعادة توجيه الوعي نحو استئناف النقاش الطويل حول الهوية.
هناك تناقض أساسي بين الفريقين. ومن ثقب هذا التناقض يرى كل فريق أن “الحل” في نزع سلطات الفريق الآخر. وفوق هذا كله، يأتي الصراع بصيغة غير نزيهة أبدا، يصر الجميع فيها إصرارا عجيبا على تحويل القضايا إلى قضايا هوية. فكلنا نتذكر الهجوم المتواصل الذي شنته القوى المتدينة والتقليدية ضد غازي القصيبي في قرار تأنيث المحلات النسائية، كان الهجوم لا يشرح أسباب رفضه، وإنما فقط يلوح بـ “محاربة تغريب المجتمع” كلافتة يحشد بها قطاعات واسعة من المجتمع عبر استفزاز هويته. الهجوم لم ينتقد القصيبي بصفته وزيرا، بل انتقده بصفته القصيبي الشخص، الذي يتمثل في مخيلة المتدينين كتهديد للهوية… هكذا يتم تحويل القضية إلى قضية “هوية”. مثل هذا بالضبط هو الذي حدث للحيدان، فالهجمة لم تتعرض للحيدان بصفته رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، بل تعرضت للحيدان المفتي، وذلك برفع لافتة الإرهاب، والاتكاء عليها لجلب ضغط إعلامي دولي. وهكذا، وبشكل دوري، يدعو للإحباط والملل، تتكرر هذه الجولات بين الفريقين… ليذهب ضحيتها هذا الوضوح والعودة للوراء من جديد في حرب الهوية. هذه الحرب التي لا تنصر مظلوما ولا تجرم مذنبا!
كم سيكون الأمر مذهلا لو كان الدفاع في هذه الحرب عن المواطن وحقوقه، عبر الكشف عن مواطن الثغرات والفساد والبيروقراطية في مختلف المؤسسات. لكن يبدو أن المنابر الإعلامية تتملل عن القيام بمثل هذه المهام، فتكتفي بسلك الطريق الأسهل عبر تشخيص المشكلة، وتحويرها من أزمة مؤسسة إلى أزمة شخص أو توجه فكري. واستغلال هذه المنابر لتحقيق مآرب شخصية، فالإعلام اليوم مهنة من لا مهنة له، وهو مجال خصب للوصولية والتزلف والتكسب والانتفاع المادي، فهو أصلا مجال ينخر فيه الفساد: فكيف نتطلع أن يأتي بخير؟ وهذه الحال الرديئة ليست سرا أكشفه لكم، بل هي عينها ما يتشكى منها صحفي مخضرم كمحمود تراوري.
الوضوح الذي تحدثت عنه هو حالة ظرفية مرتبطة بأسبابها الاجتماعية، ما لم يستغله الإعلام ويعمقه ويحوله لوعي وتربية وسلوك، فإنه سيتبدد بمجرد تبدد الظروف التي أتت به. لكن إعلامنا لا يفعل ذلك، ولا يكتفي بأن يكون محايدا، بل يتدخل كثيرا لتسريع تبديد هذا الوضوح عبر افتعال مثل هذه القضايا السخيفة والغير نزيهة… والتي يعتبرها بعض “العقلانيين” و”المتنورين”: أنها قمة الشطارة العقلانية والبراجماتية، وفاتهم أن العقلانية لا قيمة لها ما لم تقترن بالعدالة والإنصاف، وأن مشروع التنوير كله ينهد إذا انبنى على الاستقواء بالخارج!