عندما نصف “الإعجاز العلمي” بالظاهرة، فنحن نشير إلى تيار لا يكف عن النمو في كافة المستويات المعرفية والدعوية والشعبية الإسلامية،ابتداءً من الهيئة العالمية للإعجاز العلمي التابعة لرابطة العالم الإسلامي، مرورا بمجلتها العلمية “الإعجاز العلمي” والكثير الكثير من المقالات والمواد السمعية والبرامج التلفزيونية لشخصيات علمية وإدارية وشرعية كزغلول النجار وطارق السويدان وعبد المجيد الزنداني وغيرهم، انتهاءً بعدد ضخم من المواقع المتخصصة بالاعجاز العلمي، والتي تضم في طاقمها – في مفارقة غريبة- كوكبة من المتخصصين في الميادين العلمية. وعلى المستوى الشعبي، نجد أن الوعاظ الشعبيين والطلبة وعامة الناس يرددون قصص الإعجاز العلمي التقليدية كالاعجاز في حديث الذبابة والاعجاز في آيات التصعد في السماء وانشقاق القمر وغيرها؛ يرددونها كأدلة إيمانية حاسمة لا تقبل الجدل.
هذه الظاهرة تعتبر رمزا نموذجيا للانحطاط الثقافي والحضاري العربي والإسلامي عموما. وهي، بالإضافة لذلك، نتيجة لتقاطع آيديولوجيتين ضخمتين، الاولى نشأت في الحضارة الغربية– كما انتهى إلى ذلك كارل بوبر- مع فرنسيس بيكون وهي الأيديولوجيا “العلموية”. والأخرى آيديولجيا تضرب بجذورها- كما يؤكد أحميدة النيفر- في الحضارة الإسلامية إلى تلك الفترة التي ساد فيها ذاك الجدل السياسي والكلامي والاجتماعي حول قضيّة “خلق القرآن”، وانتهت إلى تعزيز آيديولوجيا يمكن أن نطلق عليها: الفهم المطلق للنص.
في الحضارة الغربية، وفي محاولة فرنسيس بيكون لتجاوز منطق أرسطوطاليس، قام بتأسيس منطقه الجديد الذي ينهض على كل من الملاحظة والتجربة والاستقراء، ويسعى إلى التعرف على الطبيعة مباشرة من خلال قنطرة واحدة هي التحرر من كل انحيازاتنا السابقة والنظريات والتصورات التي نؤمن بها. بمجرد إتمام هذا التحرر، يؤكد بيكون، أن معرفتنا بالطبيعة ستشرع ابوابها. بدءا من الملاحظة المباشرة، مرورا بالتجريب المتنوع المدعوم بالاستقراء سنكتشف حقائق الطبيعة. هكذا بشّر بيكون بالعلم الجديد، والذي ستتحول بشارته إلى عقيدة تأسيسية تقوم عليها قدسيّة العلم الطبيعي في الحضارة الغربية بالشكل الذي لم ينقطع حتى عصرنا الحالي.
في الناحية الأخرى، جرى في الحضارة الإسلامية تكريس تصوّر أحادي للعلاقة بين المفسّر والنص المقدس. تمثلت هذه العلاقة في أن للنص مفهوم واحد، كل ما على المفسّر القيام به هو الكشف عنه. وهذا المفهوم لا علاقة له بواقع المفسر ومرحلته التاريخية ووعيه المعرفي، وإنما هو مفهوم ازلي مطلق يحتوي على كل المعرفة، ما على المفسّر سوى السعي إليها. نجد لهذا التيار لحظات متعددة كلحظة الغزالي الذي يؤكد على أن القرآن “البحر المحيط الذي يتفرع منه علم الاولين والآخرين”. وكذلك لحظة ابن القيم الذي يؤكد على أن العلم “قال الله قال نبيه قال الصحابة اولوا العرفان”. وهذه العلاقة مع النص واحدة، وإن تعددت اشكالها وتنوعت صيغها، فنجد في التراث من حاول تمرير بعض علوم التنجيم والعدد وكذلك العلوم الطبيعية والجغرافية والفلكية عن طريق تأكيد أنه متضمنة في النص القرآني.
وفوق هذه البنيّة الأساسية في العلاقة بين المفسر والنص التي كرّس لها أحميدة النيفر عدة مقالات وكتب في الكشف عنها، تتربع نظرية الإعجاز العلمي، عن طريق التحامه بالتيار العلموي الغربي الذي يزعم أنه يكشف عن حقائق الطبيعية. فعن طريق امتزاج التيار الذي يرى المعرفة مكنونة في النص المقدس، وأنها واحدة، ويمكن للمفسر كشفها عن طريق التقيد بآلية واحدة؛ امتزاجه بالتيار الذي يزعم أن بإمكان المعرفة البشرية كشف حقائق الطبيعة … أقول: عن طريق هذا الالتحام نشات ظاهرة الإعجاز العلمي ابتداء مع طنطاوي جوهري، ولم تزل تتنامى وتنتشر حتى تحولت إلى ثقافة وحجج شعبية لدى عامة الناس.
فالإعجاز العلمي يقوم أساسا- كما يؤكد كثير من رواده كعبد المجيد الزنداني وأمين هيئة الإعجاز العلمي عبد الله المصلح واللفظ للزنداني- على ” التوافق الدقيق بين ما في نصوص الكتاب والسنة، وبين ما كشفه علماء الكون من حقائق كونية، وأسرار علمية،لم يكن في إمكان بشر أن يعرفها وقت نزول القرآن”. فهو يعتمد كلا الأساسين: الأول أن المعرفة بالوحي واحدة لا علاقة لها بالذات العارفة ومحدوديتها المكانية الزمانية، يمكن كشفها، وبمجرد كشفها بالطرق الصحيحة تتحول إلى معرفة نهائية، هي دلالة النص “القطعية”. الثاني أن نتائج العلم الحديث هي “حقائق كونية” غير قابلة للجدل أو التغيير والتجاوز.
وهذان الأساسان بالتحديد هما المعبران الأساسيان عن الانحطاط الثقافي والمعرفي العام العربي الإسلامي، فالأساس الاول ليس شيئا سوى استمرار لما استقر في عصور الانحطاط، وإغلاق لأبواب الاجتهاد والابداع في العلاقة مع النص، وهو أخيرا إلغاء لفعالية القرآن في حياة الناس، وتحنيطه كمجموعة رموز وكلمات مستغلقة الفهم إلا لفئة مخصوصة تحتكر فهمه. والأساس الثاني، يوضح مدى التأخر في مواكبة التطورات العلمية الحديثة، والخلل الكبير الذي نتج عن تعلم العلم دون الاطلاع على فلسفته. فأكثر الذين يخوضون في الإعجاز العلمي هم من ذوي الاختصاصات العلمية البحتة، ورغم ذلك فإن معرفتهم بالعلم ومدى معياريته وحقيقته، معرفة ضحلة، وإن لم تكن لما انجروا خلف هذا الإعجاز. فمنذ كارل بوبر وغاستون باشلار وفيرباند وشالمرز وغيرهم تم توجيه نقد حاد للتيار “العلموي” جرد معه وصف نتائج العلم بالـ”حقائق” والـ”قوانين”.
يبقى الإشارة إلى نتيجة نفسية مهمة لظاهرة الإعجاز العلمي، وهي أنها تكرس التخلف العام على كافة المستويات الاجتماعية، بل تعيد إنتاج هذا التخلف على أنه معرفة- كما يردد حسن عجمي. وتكرس قتل الابداع والرغبة في الابتكار، إذ أن ما يروج له الإعجازيون ضمنيا هو التالي: كل ما أتى به الغرب من علوم موجود في الوحي منذ 14 عشر قرنا. وهنا، عند تمرير هذه المتضمنة إلى الشخص العامي فإنه يتممها قائلا: فما الحاجة إذن إلى تعلم هذه العلوم؟