على رغم أن لحظة مقتل القذافي عنت لليبيين لحظة انتصار الثورة، إلا أنها باتت تعني لقطاعات واسعة من الحقوقيين والليبراليين الغربيين، إضافة لبعض أنصار الثورات العرب، نموذجاً ناجحاً لـ«التدخل العسكري»، يمكن تصديره لحماية الأرواح في مناطق أخرى، ومهما تصل درجة قناعة بعضهم إلى أن «الناتو» ليس مؤسسة خيرية، إلا أنهم يرون أن حماية أرواح البشر تأتي باعتبارها أولوية على كل ما عداها. وهؤلاء، بانطلاقهم من الحرص على حماية أرواح الناس، يختلفون في تأييدهم للتدخل العسكري عن أولئك الذين ينظرون للتدخل العسكري من زاوية سياسية، باعتباره وسيلة يمكن من خلالها إسقاط حكومة مستبدة أو ضرب محور إقليمي مناوئ أو غير ذلك من المصالح السياسية التي لا تنتهي. ونقاشي هنا ليس موجهاً لأنصار التدخل من منطلق سياسي، إذ إنهم لا يختلفون عن الحكومات المستبدة في استسهال إزهاق أرواح الناس من أجل تحقيق مصلحة سياسية بعينها. نقاشي هنا موجه لأصحاب الموقف الحقوقي، منطلقاً من زاوية محددة وهي أن كون التدخل العسكري يحفظ أرواح الناس ما هو إلا محض «أسطورة».
إذا اعتمدنا نهاية الحرب الباردة نقطة انطلاق تاريخية لتقويم تجارب التدخل العسكري، سنجد أننا أمام مسلسل من الفظائع. فالتدخلات العسكرية، منذ تحرير الكويت مطلع التسعينات الميلادية، مروراً بالصومال وراوندا وكوسوفو، وصولاً إلى حال ليبيا، قادت إلى مآسٍ. تنوعت هذه المآسي ما بين الانسحاب وترك البلاد تنساق إلى حرب أهلية (الصومال)، أو تشجيع الناس على الانتفاض ضد حكومتهم المستبدة ثم الاكتفاء بمراقبتهم يموتون (صدام قتل نحو ٦٠ ألفاً في الانتفاضات التي شجعتها أميركا بُعيد حرب الخليج من دون أن تحرك ساكناً عندما تم قمعها)، أو دعم فصيل ليقوم بأعمال وحشية ضد فصيل آخر (فدعم أميركا للقوات المناهضة للصرب أدى إلى عمليات تطهير عرقي قام بها الكروات ضد المدنيين الصرب).
ولو غضضنا الطرف عن النتائج المساوقة لعمليات التدخل العسكري هذه، نجد أن «التدخل العسكري من أجل حماية الناس» يقوم على تناقض ذاتي: إذ الحماية هنا تستلزم استخدام القوة، التي دوماً تعني مقتل أبرياء وتدميراً كاملاً للبنية التحتية عبر حملات القصف الجوي التي تبدأ بها هذه التدخلات عادة (ستة بلايين دولار خسائر التدخل في كوسوفو). وكما يقول بنجامين فالنتينو في مقالته بالفورين آفيرز «الثمن الحقيقي للتدخل الإنساني»: «مهما تكن الغايات إنسانية، فإن الوسائل لن تكون أبداً كذلك. إذ إن استخدام القوة لحماية أرواح الناس، يتضمن إزهاق أرواح آخرين، بما في ذلك الأبرياء».
وأمام هذا الواقع، لا يبقى أمام مؤيدي التدخل إلا الحجّة العددية التالية: أن أعداد الأرواح التي كانت ستزهق من دون التدخل، ستفوق الأعداد الحالية بشكل غير متخيل. وهذه الحجة تنطلق من أساسين متوهمين: افتراض إنسانية القوّة المتدخلة وصدق نياتها، والثاني هو شيطنة شخصية المعتدي (سواء كان ميلوسوفيتش أو القذافي) لدرجة تسمح بهذا الافتراض. وعملياً، لو قارنّا عدد القتلى في ليبيا التي حدث فيها تدخل عسكري، وسورية التي تمارس فيها الحكومة أشنع عمليات القمع ضد المتظاهرين، لوجدنا أن من بين كل عشرة قتلى في ليبيا هناك قتيل واحد في سورية.
رفض أن التدخل العسكري يحمي الناس واعتباره محض أسطورة، لا يعني أبداً ترك الناس يلقون حتفهم من دون تدخلات سياسية واقتصادية ولوجستية وغيرها. كل ما يؤكده هذا الرفض أن هذه الوسيلة، إن لم تفاقم عدد القتلى، فإنها أبداً لا تحقق هذه الحماية (مجازر دارفور، ومقتل ثمانية آلاف بوسني حدثت وقوات حفظ السلام موجودة)، ومن هنا يكشف «التدخل» عن حقيقته أنه محض أداة هيمنة سياسية بمسوغات حقوقية. إذ لو كانت حماية أرواح الناس هي الغاية التي تنشدها المنظمات والكيانات الدولية، فإن قيمة صاروخ التوماهوك الواحد الذي ألقي المئات منه على ليبيا تعادل مليون دولار ونصف المليون، أي ما يكفي لتطعيم مليون ونصف المليون طفل ضد الحصبة التي قتلت ١٦٠ ألف فرد عام ٢٠٠٨، أي أنها – بحسب فالنتينو، إذا قبلنا التعامل مع أرواح البشر كمحض أعداد – «أكثر فاعلية بثلاثة آلاف مرة من التدخل العسكري في الصومال، وبـ «500» مرة من التدخل العسكري في البوسنة».
من هذا كله يكون رفض التدخل هو الموقف الحقوقي، لا المطالبة به. وكذلك – من ناحية سياسية هذه المرة – فإن الاستحقاقات السياسية مرتبطة بطبيعة الحدث نفسه، فالمنتصر في الحرب هو الذي يفرض شروطه، والثوار الظافرون هم الذين يبنون دولة المستقبل بالصورة التي من أجلها ثاروا، لكن المطالبة بإنجاح ثورة عبر تدخل عسكري أجنبي من قوى ذات مصالح، يعني تلقائياً التضحية بكل استحقاق لهذه الثورة، وترك إدارة المستقبل بأيدي قوى تأتي وتتحكم بها هذه القوى المتدخلة. أي – عملياً – تفريغ الثورة من محتواها، وتحويلها إلى محض «مأساة إنسانية» تستغل لتحقيق مصالح خارجية.