تباينت مواقف الكتاب حول ما يجري في غزة، ابتداء من أصحاب ردات الفعل العاطفية التي ما إن يتم تفريغها على شكل حروف وكلمات، إلا وتتلاشى وتنتهي. مرورا بالداعمين والمؤيدين لحماس انطلاقا من موقف عروبي أو إسلامي أو حتى إنساني ثابت وواضح… انتهاء بأغرب المعلقين والذين يحمّلون حماس مسؤولية ما يحدث في غزة.
يتبنى هؤلاء الأخيرين الموقف التالي: حماس هي من يتحمل مسؤولية الحرب، أو الجزء الأعظم من هذه المسؤولية. وهي بدخولها هذه الحرب تخدم أجندات إقليمية، لا تخدم أهل غزة. وبالتالي… يتوجب علينا ألا نقف إلى جانب حماس، لأننا بذلك سنؤدي نفس الخدمة لتلك الأجندات. وبخصوص إسرائيل، فهؤلاء لا يختلفون أن إسرائيل عدو، لكن لسان حالهم يقول: أنه عدو بيننا وبينه “عيش وملح” فالتعايش معه والاستفادة من وجوده أمر لا حرج منه. لكن، بالمقابل، تمتلك تلك القوى –إيران تحديدا- قدرة على التأثير خطيرة جدا. ومن هنا، لابد أن نأمل التخلص من حماس حتى وإن صاحب ذلك بعض الاضرار للشعب الفلسطيني، لأن التخلص منها تخلص من هذا النفوذ الذي تتميز به تلك القوى. هذا بشكل عام ما استطعت استخلاصه من هذه الكتابات هؤلاء.
ينطلق هذا النوع من التحليل من عدد من المنطلقات، يمكن تلخيصها بالتالي: فهو، أولا، يتعمد تغييب الذاكرة التاريخية بحصر الحرب بين “حماس” وإسرائيل، لا على أنها معركة واحدة من حرب طويلة عمرها 60 سنة بين “العرب” وإسرائيل! كما أنه، ثانيا، يتعمد إبراز بعض اجزاء الصورة وإخفاء بعضها… فهو يشدد على سذاجة حماس السياسية، وعلى تحالفاتها الإقليمية، لكنه بالمقابل لا يكاد يذكر كونها منتخبة شرعيا، وأنها قبلت بتهدئة طويلة جدا لم تنل منها سوى الحصار والقتل، بحيث يقدر عدد من مات عام 2006 بحوالي 700 شهيد! ويتعمد هذا التحليل، ثالثا، التقليل من حجم الخطر الاسرائيلي والتهوين منه، في سبيل تعظيم خطر قوى أخرى كإيران وغيرها. وهو، رابعا، ينطلق من مرجعية “السلام” في تجريم كافة أعمال المقاومة دون تكبد القليل من العناء في توضيح: ما هو السلام؟ هل هو السعي من أجل الوصول لتسوية سياسية عادلة تضمن الحقوق المسلوبة، أم هو نوع من خضوع الضعيف لشروط القوي والقبول بباملاءاته من أجل مصالح فئوية وخاصة…
هذا النوع من التحليل رغم أنه ينتهي إلى نتائج لا تصب إلا في مصلحة المعتدي، وإعفاءه عن مسؤولية جرائمه، وتحميل الضحية مسؤولية ما جرى لها… إلا إنه يصر على أن ما انتهى عليه إنما هو نتيجة تمسكه بالعقلانية والواقعية والبراجماتية. وهو بإصراره على ذلك، يكشف طبيعة العقل الذي يتحلى به، بأنه عقل أداتي يفصل بين الحوادث والقيم، والإيهام بأن العقلانية والواقعية تتناقض مع العدالة! هذا العقل الذي وإن كان مجديا في مجالات العلوم والقنية إلا أن تبنيه أثناء تحليل الحوادث التي تجري للبشر يوقعنا فيما سماه لوكاتش بـ “تشييئ” الانسان، والتعامل معه كشيء لا قيمة أخلاقية له، والنظر للظواهر البشرية بمنطق كيف حدثت لا بمنطق ما يجب أن تكون عليه… ينتهي هذا النوع من التفكير لتبرير الواقع ومقاومة تغييره انطلاقا من قيمة أخلاقية أو فكرة سامية!
وضدا على هذا كله لا بد من التأكيد على أن ما يحدث في غزة: واضح جدا. وكونه واضح لا يعني أنه الحقيقة، فأنت ترى أمامك بيتا بوضوح، لكنك لا تعرف حقيقة هذا البيت، لكنك لن تقبل أي محاولة للتشكيك بكونه بيتا! هذا النوع من التشكيك وتزييف الوعي هو الذي يقوم به هذا التحليل الذي استعرضناه هنا. ومن هنا أقول أن غزة المحكومة من حركة المقاومة حماس المنتخبة شرعيا والتي لم تنل فرصتها في خوض تجربتها السياسية، غزة هذه تتعرض لهجوم وحشي وضاري من دولة معتدية ومتجاوزة لكافة حقوق الإنسان والقوانين الدولية، تحت ذريعة إطلاق الصواريخ، التي لم تطلق إلا بعد إحكام الحصار حول غزة وعدم وجود أي جدوى من التهدئة. هذا أمر واضح جدا، ولا بد من فضح أي عملية تزييف له وتحوير.