إن المشكلة المثارة حول العلاقة بين العلم والدين، والتي استعرضناها الأسبوع الماضي، يمكن إرجاعها لمشكلة أعم وهي مشكلة الحد الفاصل: كيف نستطيع التمييز بين العلم الطبيعي وغيره؟
بدأت هذه المشكلة عندما بدأ تدشين التصور الجديد للعالم انطلاقا من جهود كوبرينسكو وجاليليو واكتمالا مع النظام الميكيانيكي النيوتني. كانت هذه الرؤية الجديدة للعالم تتصادم مع الرؤية القديمة ذات الجذور الاغريقية والتي تستند عليها المؤسسة الدينية في تأكيد صحة عقيدتها ابتداء من أوغسطين إلى توما الاكويني. وكان نتيجة هذا الصدام أن تم “تديين” العلم الطبيعي، بوصفه الحقيقة التي تتعارض مع الحقائق المقررة في كل من العقل الأرسطي والنقل المسيحي. تم تدشين هذه الديانة ابتداء مع فرنسيس بيكون، الذي يصفه بوبر قائلا« كان بيكون مبشرا، الملهم العظيم بعقيدة العلم الجديدة”. قام بيكون بوضع حدود واضحة تفصل بين العلم الطبيعي من جهة، وبين الفلسفة واللاهوت من جهة اخرى. وجاء بعده اوغست كونت بنظريته التي تؤكد أن البشرية نظرت للعالم أولا عبر اللاهوت، وثانيا عبر الميتافيزيقا، لتصل أخيرا للطور النهائي وهو العلم. وتنتشر عقيدة العلم بصيغته الميكانيكية النيوتنية، لتصل ذروتها عند أحد العلماء الذي يقول: أعطوني الشروط الاولية، وأستطيع اخباركم بكل ما سيحدث، وآخر يقول: إن كل المشكلات الفيزيائية قد حلت ولم يتبق إلا مشكلتان. هذا الإيمان الدوغمائي بالعلم وصل قمته مع المدرسة “الوضعية المنطقية”، وخصوصا دائرة فيينا، حيث حكمت على كثير من المشاكل الفلسفية بأنها مشاكل غير ذات معنى، وأن الميتافيزيقا خرافة، وأن دور الفلسفة ينحصر فقط في تحليل اللغة المتداولة، سواء كانت عادية أم علمية. وبهذا تم نقل الفلسفة من كونها خادمة للمسيحية كما هو الحال في العصور الوسطى، إلى كونها خادمة للعلم مشغولة بتحليل مقولاته.
كل هذه الوثوقية والاغترار بالعلم، إنما تنطلق من كونه يمدنا بحقائق يقينية تم إثباتها عبر المنهج التجريبي الذي ينطلق من الملاحظة والتجربة لينتهي بصوغ النظريات القادرة على التفسير والتنبؤ. وانطلاقا من هذا المنهج التجريبي يتم التمييز بين العلم وغيره. والاستقراء، هو عمود هذا المنهج التجريبي، فالانتقال من الملاحظات الجزئية والتجارب الجزئية للقضايا الكلية والنظريات إنما يتم من خلاله. هذا الاستقراء أحاطه دايفيد هيوم بظلال من الشك عندما أثبت أنه لا يقوم على مبرر منطقي. والمثال البسيط الشهير على بطلانه كما يردد بوبر كثيرا هو “أنه مهما كان عدد الأوز الأبيض الذي رأيناه، فلا شيء يبرر لنا القول بأن كل الأوز أبيض”. هذا الهجوم الذي شنه هيوم على الاستقراء، والذي كان يهدد صرح العلم كله، حاول عمانوئيل كانت و ولّ وماكس بلاك ورايخنباخ وأخيرا برتراند رسل ودائرة فيينا إنقاذه ولكن دون جدوى. وكان على سدنة العلم هؤلاء أن يروا بأعينهم كيف استطاع الرياضيون أن يبدعوا أنظمة رياضية لاأقليدية، وأن يروا كيف استطاع كل من ماكس بلانك وآينشتاين إثبات بطلان- أو محدودية- نظام نيوتن. ومن هنا ظهر كارل بوبر مهاجما الاستقراء مهاجمة لا هوادة فيها، ليقترح عوضا عنه معيارا جديدا لتقويم مدى علمية النظرية، وهو “قابلية الدحض”. فالنظرية عند بوبر تكون علمية عندما تكون قابلة للدحض. وللكل الحق بأن يطرح نظرية، لكن حتى تكون علمية يجب على واضعها أن يخبرنا عن الحدث أو الظرف الذي بحدوثه تنتقض هذه النظرية. ولا تزداد النظرية قوّة إلا إذا استطاعت البقاء على الرغم من تعرضها لاختبارات وامتحانات كثيرة تستهدف دحضها. وانطلاقا من هذا حكم بوبر على الماركسية والفرويدية بأنهما نظريتان غير علميتين لأنهما غير قابلتين للدحض. ما يميز أطروحة بوبر، هو أن النظرية العلمية عنده لا تفضي إلى حقيقة، بل هي بالضرورة ناقصة، وهي في أفضل حالاتها اقتراب نحو الحقيقة. وهو بهذا سدد ضربة قاضية نحو سلطة العلم وأسطورة قيامه على “الحقائق العلمية”. لكن بوبر تعرض للعديد من الانتقادات، وتم تطوير معايير جديدة للعلم خصوصا عند لاكاتوس و توماس كون، وهناك من رفض مناهج العلوم كفايرباند الذي ألف “ضد المنهج”، وما زال هذا الحقل من فلسفة العلوم في تطور ونمو.
وبأخذ كل هذا بعين الاعتبار، نستطيع أن نرى هذا النقاش الدائر، بأنه نقاش لا معنى له، فأقصى ما قد يفضي إليه قد تم تجاوزه منذ زمن، فلماذا تحدث كل هذه الجلبة؟ لا أجد جوابا سوى أنه انعكاس لواقعنا المتخلف، فالواقع المتخلف ينتج تصورات متخلفة ونقاشات متخلفة.
أريد أن اعلق تعليق بسيط على الافتراض المثير للسخرية أن “المنهج العلمي التجريبي” هي طريقة عقائدية او دوغمائية غبية كالدين.
المنهج العلمي هو عملية اختبار للمفاهيم ومقارنتها بالواقع. المنهج العلمي هو طريقة عقلانية للقيام بالاختبار.
في حين “المفاهيم” نفسها قد لاتكون توصلنا إليها بطريقة “المنهج العلمي” بالضرورة. قد تكون وصلت إلينا بطريق غير عقلاني او بطريقة غير متوقعة. ولكن لنتأكد من صحة المفاهيم وتطابقها مع الواقع نحتاج للمنهج العلمي. فرضا لنقل ان هناك مجموعة من الناس يقومون بملاحظات او صياغة فلسفات حول شي معين لنقل “العدوى”، ملاحظاتهم وافتراضاتهم بنفسها لا تعتبر عقلانية ولكن لو طبقنا المنهج العلمي على إحداها ونجحنا أي اثبت تطابقه مع الحقيقة والواقع، نسمي هذه الملاحظة او التحليل “عقلاني” وعلمي. هذه كلها جزء من “التفكير العلمي” وهذا شئ مختلف عن مسطلح ” المنهج العلمي”. ببساطة المنهج العلمي هو طريقة اختبار وتحقق لنفرق بين ماهو حقيقي وماهو وهم من صنع الانسان. لأن الانسان بحواسه فقط لا يستطيع تفسير حدث بشكل مؤكد ويؤخذ كحقيقة او “تفسير قريب للصحة”، بل نحتاج لأداة اختبار أثبتت قوتها و تفوقها لنحكم بشكل قاطع، وهذا الاختبار نسميه المنهج العلمي scientific method