لو وضعنا طفلا ما في مكان معزول، صحراء أو غابة، بحيث لا يكون خاضعا لأي تأثير بشري: ماذا ستكون تصوراته الدينية؟ تأتي الإجابة،التي تكاد تكون سائدة، لتقول: سيكون مسلما، لأنه سيبقى على الفطرة التي ولد عليها. ليس هذا فقط، فعندما تخوض نقاشا حول بعض العلاقات الاجتماعية، خصوصا علاقة الرجل بأخواته، بزوجته، ببناته…إلخ، ستجد أن “الفطرة”هي التبرير الذي يتم الاستناد إليه لتبرير ما هو قائم من علاقات. وبشكل عام، وفي غالب الحوارات الدينية والأخلاقية، تكون الفطرة حجّة رئيسية، حجة حاسمة يركن إليها المرء في تبرير جوانب مختلفة من سلوكياته وأخلاقياته وقناعاته وعلاقاته. و”الفطرة”، لبساطتها من جهة، ولقدرتها الاستيعابية من جهة أخرى، هي الطريق الأسهل للوصول إلى العقول، التي تتكئ عليها أصلا في تبرير معنى حياتها، ولهذا كله نجدها رائجة في الخطب والمحاضرات الدينية.والسؤال الذي سنحاول الإجابة عليه هو: ما الفطرة؟ لنقرر أولا أن الفطرة ليست هي الغريزة، فالغريزة خاصية مشتركة بين الإنسان وغيره من الحيوانات، وهي عادة ما تختص بالوظائف العضوية البيولوجية. أما الفطرة فهي تختص بالجوانب الثقافية، فمن أهم ما يميز الانسان عن غيره من الحيوانات: هو كونه ذا ثقافة، أي ذا مجموعة من القيم (أخلاقية وجمالية ودينية وغيرها). والقيم، بما هي قيم، تتراتب وتتوزع: فهناك الجميل والقبيح، الفاضل والرذيل، الحق والباطل… ولابد من معيار واضح للفصل بينها، وهنا يأتي دور الفطرة. فهي، كما تُصوَر لنا، مجموعة من المعايير يولد بها الانسان، ففي مواجهة أية محاولة للنظر للقيم نظرة نسبية، تأتي الفطرة لتؤكد أن المعايير التي يتم الدفاع عنها إنما هي معايير “فطرية”مجبول عليها الإنسان، هي معايير الإنسان “الطبيعي”… أي محاولة للخروج عليها أو التشكيك فيها هو تحول عن الوضع البشري الطبيعي الفطري، واستسلام للانحراف… وعادة ما يصور الانحراف إلى أنه ارتداد إلى عالم الحيوان، فالبقاء على الفطرة هو بقاء على ما يميز الإنسان، وأي تمرد عليها هو انحطاط لعالم الحيوان. ويرتكز خطاب الفطرة هذا على مجموعة من النصوص كـ “يولد أحدكم على الفطرة…..”. فتستخدم هذه النصوص كتأكيد على محورية مفهوم الفطرة، التي تتوسع لتشمل ليس فقط التوحيد، بل باقي قيم الاخلاق والجمال وغيرها.ولكن هل حقاً يولد الانسان بمعلومات؟ هل يولد الانسان يعرف أي شيء؟ نجد القرآن ينفي هذا الأمر بصيغة حاسمة إذ يقول الله: “أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا”. فإذا كان الإنسان يولد بلا معارف، فما الذي يتبقى للفطرة من معنى إن لم تكن مجموعة معلومات أولية؟ هذه الاشكالية التي يتحجج بها من يتبنى نظرية الفطرة. بل يزيد اعتراضه إيضاحا بسؤال حاسم: ألا يولد الانسان موحدا؟ وأي معنى للتوحيد سوى كونه علم الانسان بوحدانية ربه؟ هذا فيما يخص الدين، أما فيما يخص الاخلاق والسلوكيات، فالسؤال الحاسم الذي يطرحه صاحب نظرية الفطرة: انظر للأطفال، وكيف أنهم يأنفون من هذا الشيء أو يعرفون ذاك الشيء، ألا يعني هذا أنهم ولدوا على الفطرة وانهم انطلاقا منها يتبنون مواقفهم هذه؟
وقد يبدو هذا الاحتجاج متماسكا، إلا أنه لا يستمد تماسكه إلا من اتكائه على تمويهين رئيسيين: أما الأول فهو تفسيره للفطرة بأنها الاسلام والتوحيد، وأن معنى “يولد أحدكم على الفطرة” أي أنه يولد على الإسلام والتوحيد. يقول ابن تيمية: “ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق، الذي هو الإسلام، بحيث لو ترك من غير مغير، لما كان إلا مسلما.” فالفطرة ليست هي التوحيد أو الاسلام، بل هي استعداد وتهيؤ مسبق لقبول التوحيد. وبهذا تنتفي المماهاة بين الفطرة والتوحيد. أما التمويه الآخر فهو اعتبار الطفولة حالة معبرة عن “الطبيعة البشرية”، انطلاقا من كونها مرحلة قريبة من الولادة وبالتالي فهي ما زالت تحتفظ بالخصائص “الطبيعية” للانسان. وهذا التمويه يتناسى أن الطفولة هي من أعظم مراحل اكتساب القيم والعادات والاعراف من الوسط المحيط بالطفل، ولا أدل على ذلك من سرعة تعلم الطفل للغة والعادات، هذه السرعة والكفاءة التي نجدها مفقودة عند البالغين. ما أريد قوله أن اعتبار الطفولة تعبيرا عن “الحالة الطبيعية” للإنسان فيه إهمال كبير لتعقيد علاقة الطفل بعالمه الخارجي، كما أن فيه تناولا سطحيا لتحديد حجم ما هو مكتسب لدى الطفل وكيفية تحديده. لماذا أهاجم “نظرية الفطرة”هذه؟ لأني أعتقد أنها تؤدي وظيفتين سلبيتين على المستوى المعرفي والايديولوجي: فعلى الصعيد المعرفي تقف الفطرة حاجزا أمام التساؤل والبحث والتقصي، فما جدوى البحث عن الأجوبة في الخارج طالما أنها مكنونة في فطرنا؟ وعلى الصعيد الأيديولوجي، يتم توظيف سلاح “مخالفة الفطرة” لكل مخالف أيديولوجي، فيتحول الاختلاف، الذي يفترض أن يكون محرضا للتنوع والتعددية، إلى تقسيم للناس بين من هم على الفطر السليمة وبين من هم ذوي فطر منتكسة!