أصدر عبدالله العروي كتابا جديدا هذا العام عنونه بـ “السنة والإصلاح”. هذا العنوان سيكون غريبا ومثيرا معا، لكل من ألف العناوين التي اعتاد العروي التحرك من خلالها، سواء سلسلة المفاهيم (مفهوم العقل، مفهوم الحرية، مفهوم التاريخ، مفهوم الآيديولوجيا…) أو كتبه الأخرى ذات المزاج الماركسي والتاريخاني (الايديولوجيا العربية المعاصرة، العرب والفكر التاريخي … وغيرها). تزداد الغرابة عند تصفح الكتاب، فهو مصنف على هيئة مجموعة رسائل يخاطب فيها المؤلف امرأة أمريكية ذات أصول مسلمة وتخصص علمي، كانت قد طرحت عليه مجموعة أسئلة مبعثها خوفها من المستقبل، مستقبلها هي ومستقبل ابنها. ويبدأ العروي كتابه بدعوتها لقراءة القرآن، وينصحها بالتالي: “لا يكفي أن تقرئي الكتاب كيوميات تسجل ما يعرض لنفس ضالة تجهد ثم تهتدي، تقنط ثم تأمن، تتعب ثم تستريح. لا بد لك أن تستأنسي لا بالشراح والمفسرين، بل بأولئك الذين تابوا بعد زيغ ونجوا بعد ضياع…” والسؤال الذي تبادر إلى ذهني: هل يقصد العروي نفسه هنا؟
وقبل العروي، في العام الماضي، طالعنا محمد الطالبي بكتاب عنوانه “ليطمئن قلبي” يقول في توطئته متحدث عن نفسه: “أننا وجدنا ما ثبت عندنا أنه الحقيقة في القرآن، بعد مراجعة وطلب في غير القرآن من كتب مقدسة وغير مقدسة. إيماننا ليس إيمان تبعية وتقليد، وإنما هو إيمان اضطلاع بالنفس بعد بحث وروية…”. وقبل الاثنين أصدر محمد عابد الجابري مطلع العام الماضي كتابا بعنوان “فهم القرآن”، منتقلا من “مدخل إلى فلسفة العلوم” ورباعية “نقد العقل العربي” إلى محض تفسير للقرآن يعتمد فيه ترتيب النزول معيارا للفهم. والسؤال: هل نتحدث عن موجة “تدين” المثقفين العرب؟ موجة يحتاج شخص كجورج طرابيشي إلى أن يؤكد برائته منها في كتابه الأخير “هرطقات2″، إذ يقول: “لئن بدا للقارئ أنني مهرطق أكثر مما ينبغي… فربما ذلك لأنني في دخيلة نفسي أردت أن أثبت بطلان القانون القائل إن المرء يرتد لا محالة إلى (الصراط المستقيم) طردا مع تقدمه في العمر واقترابه من لحظة الغيب الكبير…”.
ظاهرة عودة المثقف والعالم إلى السائد والتقليدي والمحاماة عنه بعد التمرد عليه: ظاهرة متجذرة في التراث الإسلامي، ولا أعلم إن كانت ظاهرة انسانية عامة. فعودة الأشعري من الاعتزال إلى السنة، وما يحكى عن الغزالي أنه توفي وهو يقرأ صحيح مسلم… كلها أمثلة ترتبط في الذهن مع ما يماثلها في العصر الحديث من “عودات”… كعودة خالد محمد خالد، ومصطفى محمود، ومحمد عمارة، وحسن حنفي، وعبدالرحمن بدوي… وغيرهم الكثير. هل ثم تفسير لهذه الظاهرة؟ بل هل هي ظاهرة واحدة؟
يحب المتدينون أن يجعلوا هذه الظواهر: ظاهرة واحدة، ويستخدموها كدليل على عدم جدوى التعويل على “إعمال العقل” وتسفيه “مرحلة الشك”، وأنه لن يصح في النهاية إلا الصحيح. يقولون هذا ولسان حالهم يقول: ها هم عتاة الفكر وكبار المتشككين، عادوا إلى “الحق” بعد أن بحثوا عنه ونقبوا في غير مكانه. واضح هنا التوظيف الأيديولوجي لهذه الأحداث… مما يعني أن هناك ثم تفسير أعمق وأشمل لا يرمي “الانتفاع” من الظاهرة، بقدر ما يرمي فهمها.
وأنا هنا لا أملك مثل هذا التفسير. بل أملك بعض الملاحظات: أولها، ارتباط ظاهرة “العودات” بالتحولات التاريخية الكبرى. ففترة ما بين الحربين العالميتين، وهزيمة 67 والثورة الايرانية و11 سبتمبر، تكاد تكون أحداث مفصلية كانت سببا في كثير من المراجعات والتحولات لدى المفكرين. وتكاد تمثل تلك التحولات “خيبات” لدى المثقف. يقول- في مقابلة له مع قناة الجزيرة- أبو يعرب المرزوقي في معرض حديثه عن إحباطه من هيغل وابن رشد: أن هذا الاحباط ترافق مع ثورة ضد جمال عبدالناصر وبورقيبة، على الرغم من كونه معجبا بهما، وذلك بسبب خيبته من نظرتهما للتاريخ العربي والنهضة الاسلامية. فقادته هذه الخيبة وهذا الاحباط – في نهاية المطاف- إلى “إحياء علوم الدين”، أي إلى الغزالي.
ومهما يكن التفسير الأقرب لفهم هذه الظواهر، إلى أننا نستطيع أن نقرأ من خلالها إعلان تصالح مع السائد واندماج فيه بعد انفصال وشبه تنازل عن ممارسة النقد اتجاهه… وكأن المثقف بعد سلسلة من المحاولات النقدية والنضالات العملية، ييأس فيرجع نادما خائبا للمجتمع الذي استعصى عليه تغييره فيعلن “العودة” إليه…