كان أول خاطر خطر لي وأنا أقرأ تأثيم العبيكان والسدلان لكل من يساهم في مقاطعة المنتجات التي ارتفعت أسعارها إما استغلالا للتضخم العالمي، أو نتيجة تحالفات جائرة، هو قصة الملكة “ماري انطوانيت” التي تروى لنا عندما يتم الحديث عن الثورة الفرنسية. فعندما هاج الشعب من الجوع والظلم واستفحال التفاوت الطبقي، وخرجوا ثائرين، أطلت عليهم الملكة من شرفتها، بعدما استفزتها مطالبات “الرعاع” و”الغوغاء” بالخبز، صاحت بهم: “إذا لم يكن لديكم خبزا، فلماذا لا تأكلوا البسكويت؟”. وعلى ما تحمله هذه القصة من طرافة، إلا أنها تشير إلى تضارب الرؤى الناتج عن التمايز الطبقي!و”الرأي العام السعودي” يمكن قياسه بالرجوع إلى المنتديات والمدونات وغيرها من مجالات التعبير الافتراضية، وهذه رفضت – كما هو متوقع أصلا- هذا التأثيم جملة وتفصيلا. وأنا هنا لن أناقش مدى “عقلانية” و”شرعية” تصريحات الشيخين، لكون التصريحات لم تتضمن أي استدلالات شرعية أصلا، وكذلك لكون بعض المعلقين عليها- كمحمد حسن علوان في جريدة الوطن- قد قاموا بمناقشة التفاصيل الموضوعية لهذه التصريحات.
ما سأقوم به هنا، هو طرح التساؤل التالي: هل يحق للغني أن يفتي للفقير؟ وفي مسألة تمسّ أصل التفاوت الطبقي بينهما، هل يستطيع الغني – مهما أوتي من العلم الشرعي- أن يستوعب تماما ويتصور حجم “الأزمة” التي تتملك الفقير عند ارتفاع سعر منتج هنا ومنتج هناك بضع ريالات؟
هذه الأسئلة تتجاوز تصريحات الشيخين، وأزمة غلاء الأسعار، وتتجه مباشرة لمؤسسة الإفتاء القائمة لتطرح عليها التالي: هل هذه المؤسسة تمثل المجتمع بكافة طبقاته وتعقيداته، وتطرح له حلولا تستوعب حاجاته؟ هل هي مؤسسة تقف إلى جانبه عند أزماته أم أنها ضده أو- في أفضل الأحوال- غير آبهة به؟
يقال لنا دوما، أن في التاريخ عبرة. وتاريخ السلطنة العثمانية يمدنا بكثير من التفاصيل عن مؤسسة “شيخ الإسلام” التي بدأت متواضعة، وكان أوائل شيوخها قريبين نسبيا من عامة الناس. لكن، ومع مرور الوقت، أصبح هناك نوع من الانفصال بين شيوخ الإسلام وعامة الشعب، وأصبحت لقاءات شيوخ الإسلام ومعارفهم محصورة بكبار التجار والمسئولين في الدولة. كل هذا، وبالإضافة للمداخيل المالية التي كانوا يحصلون عليها من “وظيفتهم الدينية” هذه، جعلتهم ينتمون وجاهيا وماديا للطبقة العليا من السلطنة. هذا الانتماء الطبقي لمصاف الأغنياء، جعل رؤيتهم للمصالح والمفاسد، مقرونة بمصالح الطبقة التي ينتمون إليها ومفاسدها، ومن هنا أصبحت فتاواهم لا تخدم إلا الطبقة الغنيّة التي تنتمي إليها.
وتمثل فتوى “تحريم المطبعة” إحدى نماذج هذه الفتاوى الغنية. فمبررات تحريمها كانت كالتالي: الخوف من تحريف المصحف والسنن والمدونات الشرعية، وكذلك لما سيؤدي إليه إدخال المطبعة من تشريد للعديد من “النساخين”. وهذه المبررات لا تظهر المصلحة الحقيقية التي تدافع عنها هذه الفتوى، وهي مصلحة كبار تجار النسخ والنساخين. فهؤلاء هم المتضررون الوحيدون من إدخال المطبعة. وهكذا جاء التحريم خدمة لمصالحهم، ولكن ضد مصالح مستقبل الامبراطورية ككل، فهذا التحريم يمكن اعتباره أحد أهم أسباب تأخر الامبراطورية وسقوطها، لما توفره الطباعة من تقليل لكلفة المطبوع، وسرعة في طبعه، مما يعني زيادة شريحة القراء وكسرا لاحتكار المعرفة الناتج عن غلاء كلفة موادها.
ولو عدنا لتصريحات الشيخين، فإننا سنجد فيها ذكرا لمبررات متعددة تظهر الكثير من الأمور لكن “المصلحة الطبقية” الحقيقية التي تدافع عنها، أي مصلحة الأغنياء، هو الأمر الوحيد الذي تخفيه. ويمكن الكشف عن هذا المخفي، من خلال ملاحظة مدى “إنفصال” هذه التصريحات عن واقع الناس والمجتمع. فمثلا يذكر أن “تحديد الأسعار من اختصاص ولي الأمر والجهات المختصة”، في حين يرى الجميع أن تحديد الأسعار يأتي نتيجة تحالفات ظالمة من قبل المنتجين، أو استغلال الآخرين لهشاشة الرقابة، إن لم يكن انعدامها. وكذلك يذكر أن “الزيادة التي طرأت على الألبان ومشتقاتها زيادة بسيطة”، وهنا يتجلى المعيار “الطبقي” كأفضل ما يكون التجلي. فمعيار “الزيادة البسيطة” هو معيار طبقي بالضرورة، فما هو “بسيط ورخيص” لدى طبقة ما، هو “شديد الغلاء” لدى طبقة أخرى. وأخيرا، يتحدث الشيخ العبيكان عن الطريقة المثلى لمواجهة الزيادات الجشعة في الأسعار باللجوء للجهة المختصة التي ستعاقب هذه الشركة، وهذا الحل الذي يطرحه الشيخ هو حل لا يقول به من تعامل يوما واحدا مع مؤسسات الحكومة البيروقراطية.
كل هذه الأمثلة توضح لأي مدى تكون فتاوى الأغنياء منفصلة تماما عن واقع عامة الناس وحياتهم، ومنحصرة في المصالح الآنية المرتبطة بالفئة القليلة المرفهة، وكذلك إلى أي مدى لا تعبر عن احتياجات الفقراء وتسعى لمعالجة أزماتهم.