قديما، أحاط الخوارج بعبدالله بن خبّاب بن الأرت، وسألوه هذه الأسئلة: ما قولك في عثمان؟ ما قولك في علي؟… هذه الأسئلة، لم يكن الهدف منها الحوار، أو التفهّم، أو حتى التعارف. بل كان الهدف منها تصنيف هذا المسؤول، وتحديد الوجهة الفكرية التي ينتمي إليها. نفس الأمر حدث قبل ذلك عندما كانت قريش تمتحن أتباع الدين الجديد، ونفسه حدث بعد ذلك أيضا، عندما امتحن المأمون العلماء والفقهاء. وفي كل مرحلة تاريخية هناك ثقافة مهيمنة، لها محافظوها ولها مارقوها، وللتمييز بين هؤلاء وهؤلاء توجد هناك قضايا حاسمة، أسئلة محددة، تحدد انتماء الفرد، وتمكّن الآخر من تصنيفه. ونحن هذه الأيام لدينا مثل هذه الأسئلة، منها على سبيل المثال: ما رأيك في قيادة المرأة؟ ما رأيك في الهيئة؟ وبالنسبة للـ«مصنفاتية»: أجب على هذه الأسئلة، وستتحدد وجهتك الفكريّة على الفور.
والتصنيف هنا ليس تصنيفا وظيفيّا، تصنيفا من أجل التنظيم مثلا؛ لا، بل هو عربة تجرّ معها العديد من الأحكام. فالأسئلة التي وجهت لعبد الله بن خبّاب أدت لقتله، أما ابن حنبل فكادت أن تذهب بروحه. وهكذا بالنسبة لأسئلتنا المعاصرة، فإنها تضع المجيب عليها على أحد رفيّن لا ثالث لهما: إما إسلامي أو ليبرالي. وهنا، بعد تغليف الشخص بالحكم، يكفّ المصنف عن سؤاله أي شيء آخر، فهذه الأسئلة القليلة، تمكّن المصنف من التنبؤ، بل الجزم، بباقي آراء الشخص الذي أمامه، ودون الحاجة إلى سؤاله عنها. فهذه الأسئلة كأوراق عبّاد الشمس، تميّز الحمض عن القاعدة، وذلك بمجرد النظر إلى اللون الذي استحالت إليه بعد غمسها بالمحلول.
هذه الذهنيّة، ذهنيّة سطحيّة اختزاليّة. فهي تقيم علاقة مباشرة بين آراء بعينها وبين توجهات فكريّة، فمن يقول بهذا الرأي هو بالضرورة يتجه ذاك الاتجاه، دون الالتفات إلى حججه وبراهينه. هكذا، من يقول بقيادة المرأة هو بالضرورة يفصل الدين عن الدولة، ومن يحارب الخلاعة هو ظلاميّّ قطعا. وعندما تقوم هذه الذهنية بقراءة الآراء، فإنها لا تقرأها بهدف فهمها، بقدر ما تطالعها بغية معرفة توجه كاتبها… فيكفّ فعل القراءة بالنسبة إلى هذه الذهنية عن أن يكون مصدر معرفة، ليتحول إلى محاكمة، لا تهتم بمحتوى المقروء بقدر ما تهتم إلى أي صنف يندرج.
هذه الذهنية، في حال انتشارها، كما هو الحال لدينا، تقتل كل معاني التسامح والتفهّم والحوار… وتكسو الساحة الفكريّة برداء من الأحاديّة والتعصّب و«صراع الديكة».