هل إشكالية الإصلاح: إشكالية فقهية؟ هذا السؤال الذي دار حوله نقاش مهم في إحدى المنتديات الإنترنتية. صاحب الطرح يرفض حصر الإصلاح في بعده الديني، ويتسائل عما إذا كانت أزمة الغلاء وأزمات سوق الأسهم وارتفاع معدلات الجريمة والفساد المؤسسي والبيروقراطية القاتلة، عما إذا كانت كل هذه المشاكل لها علاقة بالتصورات الدينية؟ يتسائل: هل هي مشاكل دينية؟! هذه كلها أسئلة استنكارية بالنسبة له، ولكنها بالنسبة لنا مسائل فيها نظر. بادئ ذي بدء، لنقرر أن حصر الإصلاح في بعده الديني: مغالطة. وأن البحث عن حلول لمشاكلنا المعاصرة في بطون كتب التراث وإشكالياته، هو تضييع للجهد. ولكن، لنقرر أيضا، أن حصر الإصلاح في الجوانب التنظيمية والإدارية والخدمية، رغم أهميتها الجوهرية، هو مغالطة أيضا!
يمكن أن نقول أن الإصلاح له ثلاثة أبعاد: بعده الديني، وإشكاليته تكاد تكون فردية أكثر من كونها جماعية: كيف يستطيع المسلم أن يكون متقيدا بدينه في الوقت نفسه الذي يكون متفاعلا مع عصره؟ هذه إشكالية فردية، تختص بالمسلم من حيث كونه مسلم، وهي التي تتطلب تجديدا يزيل عن التصورات الإسلامية عوالقها التاريخية ليعيد ربطها مع المرحلة الحالية. أنا على وعي بأن هناك من الإسلاميين وغيرهم من يختلف معي في اعتبار الاصلاح الديني: اشكالية فردية، اشكالية المسلم مع العصر. وأنهم يرفعونها لإشكالية مجتمع، إن لم تكن اشكالية حضارة! وأنها الخطوة الأولى التي تسبق كل خطوة على جادة الإصلاح. هذا الرأي وجيه، لكن مناقشته ستبتعد بنا عن قضيتنا الاساسية.
البعد الثاني للإصلاح هو البعد التنظيمي: كيف يتم التخلص من الفساد؟ كيف تتحقق العدالة؟ كيف نكفل للناس حقوقهم؟ وكيف تعالج مشاكل الفقر والبطالة والجريمة؟ نعم، هذه القضايا من ناحية المبدأ لا علاقة لها بالتصورات الدينية، ولا أدل على ذلك من كونها منتشرة في مجتمعات تتباين دينيا وثقافيا تباينا شاسعا. لكن عدم ارتباطها بالدين من حيث المبدأ، لا يجعل منها “مسألة أممية”. أي أنها ليست مشكلة ذات حل واحد، يمكن معالجتها بهذا الحل في أي مكان بغض النظر عن المجتمع الذي تنتشر فيه. فالفساد وإن كان ظاهرة عامة، إلا أنه في كل مجتمع له “قصته الخاصة”، والتعامل معه كبنية ثابتة لا علاقة لها بالزمان والتاريخ والسياق التي تتولد فيه، يقودنا لاستيراد الحلول الخاطئة دائما. وطبيب فاشل، ذاك الذي يصرف الدواء الذي حفظ أنه علاج لذاك الداء، دون تشخيص المريض والتأكد من أنه سيقاوم أضرار الدواء الجانبية، أو أن جسده سيستطيع التفاعل مع هذا الدواء كما يجب… من هذا كله نتسائل: هذه المشاكل التنظيمية التي نواجهها، ألم تتدخل التصورات الدينية في تكوينها وتخالطها، بحيث لا يمكن معالجة هذه المشاكل دون تقويم تلك التصورات ونقدها؟ هذا سؤال يحيل إلى التاريخ، إلى السياق، إلى التقصي عن آليات تكوّن تلك المشاكل!
آخر أبعاد الإصلاح هو البعد الاجتماعي: كيف السبيل لمكافحة الثقافة الاستهلاكية الآخذة بالانتشار؟ كيف السبيل إلى بناء العلاقات بين أبناء الوطن على أساس المواطنة، لا على أسس طائفية وقبلية وعنصرية؟ لماذا يتكاثر الطلاق؟ لماذا تتفكك المنظومات الاخلاقية؟ كل هذه مسائل اجتماعية، وهي كسابقتها، قد تكون عامة، لكنها لا تتخلق إلا في سياقات خاصة، بحيث يصبح التساؤل التالي مشروعا تماما: أليس للتصورات الدينية والمذهبية دور هام وجوهري في تشكيل هذه المشاكل والأزمات؟ ألم يتم الفصل بين زوجين سعوديين في محاكمنا بناء على رأي فقهي يعتبر النسب حجاب؟ ألا يمارس الكثير الكثير من التمييز اتجاه المرأة انطلاقا من آراء دينية؟ وأليس المعيار الديني هو المحدد للعلاقات بين أبناء وطن واحد اختلفوا في مذاهبهم؟
الإصلاح ليس تنقيبا في بطون كتب التراث… هذا صحيح؛ ولكنه أيضا ليس تعاط مع بنى مستقلة عن كل تاريخ وكل سياق! الإصلاح تعاط مع واقع لا بد أن يُفهم أولا، وأول ما يجب أن يفهم فيه: تاريخه وكيف نشأ!