كيف نفهم الوحي؟
من بين الأجوبة المتعددة على هذا السؤال تأتي الإجابة السلفية كالتالي: نفهمه كما فهمه السلف الصالح، الذين وصف النبي قرونهم بانها “خير القرون”، والذين كانوا قريبين من فترة نزول الوحي، فهم– لقربهم الزمني– أعلم بمقاصده ومراميه ومنهج تلقيه.
هذه الإجابة هي اللبنة الأساسية التي يبني عليها التيار السلفي رؤيته للوحي والحياة والتاريخ. والذي سأقوم به هنا هو مناقشة المسلمات الأساسية التي تقوم عليها هذه الإجابة.
المسلمة الأولى والتي يمكن صياغتها على شكل سؤال كالتالي: من هم هؤلاء السلف الصالح؟ هل هم كل الذين عاشوا في فترة القرون الثلاثة الأولى؟ وهذا يتضمن الكثير من الشيعة والمعتزلة والخوارج والأشاعرة وغيرهم؟
إن تحديد السلف الصالح مسألة في غاية الأهميّة. ونحن لا نجد في الأدبيات السلفيّة معيارا يحدد متى يكون الشخص من ضمن السلف الصالح. بل حتى عندما نضيّق مفهوم السلف الصالح ونحصره في الصحابة فقط، أقول: حتى هذا الحصر لا يسلم من المشكلة نفسها.
فالقرآن أنبئنا في مواضع متعددة منه عن وجود المنافقين. وتحديد المنافق والمؤمن من بين الصحابة هي مسألة شبه مستحيلة إذ أن قائمة أسماء المنافقين ظلت قائمة سرية لا يعلمها إلا الرسول وحذيفة بن اليمان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكثير من الفرق الإسلامية تنسب أفكارها ورؤاها إلى الصحابة، تماما كما يفعل التيار السلفي. فالشيعة ينتسبون لآل البيت. ونقرأ في “المنية والأمل” أن ابن المرتضى قسّم المعتزلة إلى طبقات كان الخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي ذر ممثلي الطبقة الأولى، بينما يأتي الحسن والحسين وسعيد بن المسيب وطاووس اليماني وغيرهم في الطبقة الثانية، وفي الطبقة الثالثة نجد أن أبرز ممثليها من المعتزلة هم زيد بن علي ومحمد بن سيرين والحسن البصري. وهذه الأسماء نفسها نجدها تدرج ضمن “السلف الصالح” لدى أصحاب مذهب أهل السنة والجماعة. ونجد الخوارج يذكرون– كما يروي البرادي في “الجواهر المنتقاة”- أن من بين قتلاهم في النهروان 60 صحابيا من أهل بدر.
هذا التنافس بين المذاهب في إرجاع أصولهم العقدية والفكرية إلى جيل الصحابة، يجعل مقولة “السلف الصالح” ذو المنهج الواضح والمحدد في تلقي الوحي، مقولة خاوية من المعنى ولا تملك أي رصيد تاريخي يعتمد عليه.
هذا فيما يتعلق بتحديد “السلف الصالح”، أما ما يتعلق بكون قربهم الزماني من لحظة نزول الوحي يجعل منهم أعلم وأحكم به ممن يخلفهم، فهذه هي المسلمة الثانية. وهي تنطلق من نظرة محددة للمعرفة. فهي ترى أن معرفة مقاصد الوحي وفهمه فهما تاما يتطابق مع مراد الشارع هو أمر ممكن ومتيسر، ولكي تتحقق هذه المعرفة لا بد من التمكن من أداتين: اللغة، كون الوحي: نصّ في المقام الأول؛ ومعايشة الأحداث التي سببت نزول النصوص وملازمة النبي المأمور بتبليغها وتبيينها. وهاتين الاداتين لا يتأتى التمكن منهما إلا عن طريق القرب الزماني من لحظة نزول الوحي. فاللغة مع تقادم الزمان وبسبب التوسع والفتوحات ودخول أعراق وأقوام غير عربية في الإسلام، طرأ عليها التشوّه وكفّت عن أن تكون فطرية. ومعرفة تفاصيل نزول الوحي وبيان الرسول له، طرأ عليه ما يطرأ على التاريخ عادة من تبدل ووضع وتغيير. ومن هذين العاملين الموضوعين، بالاضافة لما دلت عليه النصوص فيما يتعلق بتميّز ذلك الجيل عن غيره من الأجيال؛ من هذا كله: يتبنى التيار السلفي وجهة النظر القائلة: أن السلف أعلم وأحكم، لأنهم وحدهم الذين حازوا على تلك الأدوات.
وهذه الأطروحة كلها لا نتفق معها، وذلك لسببين: الأول أن معرفتنا بظواهر الطبيعة لم تصل حد التطابق، فهناك تيّار متعاظم في فلسفة العلوم يتبنى الرأي القائل باستحالة وجود حقائق علمية في مختلف مجالات العلوم وذلك ناتج عن كون المعرفة البشرية – كما عبّر أبو يعرب المرزوقي: “أبديّة النقص دائبة التكامل”. وإذا كان هذا الحال في معرفتنا بظواهر الطبيعة التي نتفاعل معها حسيّا، فكيف يكون الحال بمعرفتنا بمقاصد الوحي الذي هو أشد تعقيدا ومفارقة للحس من المعرفة العلمية؟
السبب الثاني في عدم اتفاقنا مع الأطروحة السلفية، هو اختلاف النظر حول أدوات العلم: فتقادم الزمان أحدث نوعا من التراكم والتجاوز والتقدم والتعمق في كل من علوم التاريخ واللغة. وهذا يجعل من المعرفة التي تنتج عن هذا التطوّر في الأدوات معرفة أشمل وأقرب لفهم الوحي من غيرها.
ماذا يعني كل هذا؟
يعني قضية مهمة جدا. فالتيار السلفي بهذه النظرة للسلف، يضع مجموعة من العوائق المعرفية أمام الاجتهاد. فهذه النظرة التصنيمية التي ترفع مرحلة “السلف الصالح” من كونها محض مرحلة تاريخية بشرية، إلى مرحلة جيل متفرد ومتميز له نوع من العصمة والقداسة، تجرّم تلقائيا أي محاولة اجتهادية تقع خارج “منهجها” النظري والمعرفي في فهم الوحي. وهذا التجريم مبرر لديها تماما نظرا لاعتقادها بإمكان معرفة شرعية ما أن تتطابق مع مراد ومقاصد الوحي. فإذا وجدت مثل هذه المعرفة، فأي معنى لتجاوزها غير تجاوز مقاصد الوحي نفسه؟
والواقع أن التيار السلفي ليس تيارا معرفيا بحتا، بقدر ما هو أيديولوجيا لها أجندتها ومشاريعها ومطامحها على أرض الواقع، وهذا الأمر يجعل الحوار المعرفي معها حول الأصول النظرية مسألة صعبة، إذ مقتضاه قبول التنازل عن بعض هذه المشاريع والمطامح … وهنا كل المشكلة لدى مختلف تيارات محيطنا الفكري، فالمعرفة فيه مؤدلجة غالبا، مما يعني أن الحوار يتحول من حوار معرفي حول الأصول النظرية والفكرية، إلى مفاوضات حول المكتسبات والمراكز المحققة على الواقع.
شكرا اخي الكاتب. ،. لا فض فوك . عزيزي اني متابع لمدونتك ولكن لي ملاحظه فنيه. اجد دايما في الهامش اليمن الكتابة مقروضة لانها. ملاصقة لحافة شاشة الكمبيوتر. فحبذا. تصحيح ذلك لاني وغير. قد نقرأ في الهاتف. النقال او غير من الوسائط لذا ارجوا تصحيح ذلك تعميما. للفائدة .