إعادة طرح قضية للنقاش، ليس بالعيب ولا بالأمر المشين. ما هو مشين وعيب، أن نعيد طرح القضية، فقط لنؤكد ما قد انتهينا إليه من آراء وأحكام دون إعادة النظر فيها… وكأن للإجتهاد حدّ يتوقف عنده. سبب كلامي هذا، ما لاحظته في التعليقات التي نشرت في هذا الملحق على آراء جورج طرابيشي، خصوصا ما ذكره من كون العلمانية مطلب إسلامي. سأناقش هنا قضية واحدة أكثر عايض الدوسري من الإلماح لها وكذلك التصريح بها، واقتبس واستبسل في تأكيدها، ألا وهي أن العلمانية مطلب روجت له الأقلية المسيحية، وما مطالبة طرابيشي لها إلا لكونه ينتمي لهذه الأقلية، ورغم إلماحاته الكثيرة على هذه النقطة الأخيرة، إلا أنه لم يقدم برهانا واحدا عليها.
يقوم الدوسري بالاقتباس من عدد من المفكرين العرب الذين يعتبرون المطالبة بالعلمانية “مطالبة أقلوية مسيحية”. وأنا أتساءل: هل الاقتباس هنا، هو انطلاق من اعتقاد الدوسري بأن هؤلاء المفكرين: موضوعيين جدا، علميين جدا، بحيث نستطيع القبول بآرائهم الأخرى؟ خصوصا تلك التي قد لا تروق للدوسري؟ أنا لا أعتقد ذلك. ما أعتقده هو أن الدوسري يقتبس هذه الاقتباسات بعقلية “التحاجج المذهبي”، وهي العقلية السائدة في أي حوار بين المذاهب، بحيث يقوم كل مذهب باقتباس نصوص المذهب الآخر ليلزمه بها… وهنا أتساءل: هل يعتقد الدوسري أن الحداثة مذهب كمذهب المعتزلة مثلا؟! وأن هناك ثم رابطا بين برهان غليون وشبلي شميل وحسن حنفي وجورج طرابيشي، يستطيع من خلاله إلزام طرابيشي بأقوال هؤلاء؟ خاصية “التحاجج المذهبي” هذه، ليست خاصة بالدوسري وحده، بل نجدها منتشرة بكثرة عندما يقوم المتدين بالرد أو نقد أي آراء فكرية حديثة، فهو يعتبرها جزءا من “مذهب” له مجموعة نصوص أصيلة، يستطيع من خلال الرجوع إليها محاكمة أفراد هذا الموقف الفكري الذي يتعامل معه على أنه مذهب، وهذه الخاصية تجعل أصحابها لا ستطيعون أن يستوعبوا أنه يمكن أن يوجد أفراد مستقلين فكريا، وأن الاشتراك في تيار وأيديولوجيا، لا يعني أبدا الاشتراك في مذهب أو طائفة أو دين.
لنعد إلى حديثنا ونتسائل: ماذا يقصد طرابيشي عندما يقول أن العلمانية مطلب إسلامي؟ إحدى أهم المعاني التي يقصدها هو التالي: طالما أن الجميع يتفق أن المطالبة بالعلمانية قد تكون مفيدة للأقليات، فلماذا تحصر المطالبة بها بالأقلية المسيحية؟ أليس في العالم العربي أقليات إسلامية تم اضطهادها وعزلها، وأخرى كانت سببا في كثير من الفتن؟ يقول: “بديهي أننا لا نماري في أن العلمانية في وجه من وجوهها -في وجه من وجوهها فقط وليس على الإطلاق في كل وجوهها- يمكن أن تمثل مطلباً للأقليات بقدر ما يمكن أن تقدم لها ضمانة للمساواة التامة أمام القانون. ولكن ما نماري فيه بالمقابل هو أن تكون الأقليات المعنية في الدائرة العربية الإسلامية هي الأقليات المسيحية حصراً. ذلك أن العلمانية فلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد . والحال أن التعددية في الدائرة العربية الإسلامية ليست محض تعددية دينية أو إثنية، بل هي أيضاً تعددية طائفية. فالإسلام العربي، بواقعه الديموغرافي الحالي، يتألف من غالبية سنية بكل تأكيد، ولكن أيضاً من أقليات شيعية ونصيرية وزيدية وإسماعيلية ودرزية وإباضية. ومن منظور هذه التعددية الطائفية الإسلامية، فإن قضية العلمانية في العالم العربي ليست فقط قضية مسيحية-إسلامية، كما يطيب لخصوم العلمانية تصويرها، بل هي أيضاً، وربما أساساً، قضية إسلامية-إسلامية”.
كذلك، لا أحد يماري في أن مسيحي الشام هم أول من طالب بالعلمانية، ولكن ما أعتقد أنه مغالطة هو تفسير هذه المطالبة فقط: لأنهم مسيحيين. ما أعتقده أن الأمر معقد أكثر من ذلك. فلو لاحظنا تطور السياق الاجتماعي لمجتمعات بلاد الشام، سنجد أنه في آخر أيام الدولة العثمانية، كانت القوى الأوروبية تتدخل في تلك المنطقة تحت غطاء حماية الأقليات، ففرنسا تحمي الكاثوليك، وروسيا تحمي الأرثوذكس….وهكذا. أدت هذه الحمايات، إلى أن حظي أبناء هذه الطوائف بتعليم حديث قبل المسلمين الذين تعاملوا مع تلك المدارس باعتبارها مدارس “كفار”، وكذلك سافر معظمهم لأوروبا واحتكوا بها قبل كثير من ابناء المسلمين، فأدى هذا إلى أن كانوا أول المتأثرين بالأفكار الأوروبية، وأول المروجين لها. هذا من ناحية فكرية، ومن ناحية اقتصادية كانوا هم من أوائل متبني فتح المشاريع التجارية على النمط الغربي، كالاستيراد وتسلم الوكالات وما إلى ذلك. فسبقهم بالمطالبة بالعلمانية، لم يكن بسبب أنهم كانوا مسيحييين، بقدر ما كان بسبب أن الظروف السياسية والاستعمارية جعلتهم أول الشرائح الاجتماعية العربية التي تحتك مباشرة بالثقافة الأوروبية وتخضع لها. ما أعتقد أنه يثبت كلامي هذا أيضا، أنه عندما حانت لبعض المسلمين فرصة الاحتكاك بالمجتمع الأوروبي، سرعان ما تأثروا به وبدأوا بالترويج لأفكاره، أحد أشهر هذه الأمثلة هو الأزهري رفاعة الطهطاوي وغيره.