كان الجاحظ قد نصح الكتاب بنصيحة ثمينة قال فيها: “ ينبغي لمن كتب كتابا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له“. ولا يوجد أسوأ من أن يستغبي الكاتب قارئه، أو يفترض فيه قلة العلم أو سرعة النسيان. ولعل هذا ما وقع فيه بندر الشويقي في تعقيبه الأخير على سليمان الضحيان، الذي نشر في العددين الأخيرين من هذا الملحق. فهو يذكّر الضحيان بفضيلة الاعتراف بالخطأ، في نفس الوقت الذي فيه يتهرب منها، ويعيب عليه استبساله في الدفاع عن الجابري، بينما يكاد يصل مديحه للشيخ البراك مستوى التقديس. ليس هناك أسوأ من انعدام التحلي بالفضائل، سوى تحلل الداعية لها منها (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟!).
قرر الشويقي في مقالته الأولى “هل خدع محمد عابد الجابري سليمان الضحيان” ثلاثة أمور أساسية في القضية محل النزاع (هل قال الجابري بالزيادة والنقصان في القرآن أم لا؟): أولا، أن الجابري “جوز وقوع الزيادة والنقصان” في القرآن. ثانيا، أنه استند على عبارة الجابري التالية “وقد وقع تدارك بعض النقص” ليؤكد تجويز الجابري حصول النقص في القرآن. ثالثا، أنه لم يكتف بهذه العبارة، بل قام باقتباس حديث الجابري عن سورتي براءة والأحزاب للتأكيد على أن “تلك العبارة المجتزأة التي نقلها الأستاذ سليمان مع وضوحها في إثبات نقص القرآن، إلا أنها ليست وحدها الدالة على هذا المعنى في كلام الجابري، فسياق كلامه كله صريحٌ وواضحٌ في تجويزِ أن يكونَ هناك نصوص قرآنية سقطت من الصحابة حين تصدوا لجمع القرآن الكريم. “. هكذا كان كلام الشويقي في مقالته الأولى. ولكن بعد أن بين الضحيان في رده عليه أن حديث الجابري عن سورتي براءة والأحزاب، كان في سياق التعليق على مقولات السلف، وأنه أي الشويقي ابتسر كلام الجابري عن سياقه… ماذا كانت ردة فعل الشويقي؟
قام بالتالي: أولا، سحب كل هذه الاتهامات المبنية على حديث الجابري عن السورتين، وأقتصر فقط على تلك “العبارة المجتزأة” بأنها وحدها “الدالة على هذا المعنى في كلام الجابري”، وتبخر كل حديثه عن أن سياق كلام الجابري “كله صريح وواضح في تجويز أن يكون هناك نصوص قرآنية سقطت من الصحابة حين تصدوا لجمع القرآن الكريم”. ثانيا، صرح بأن هناك مرويات يرويها السلف “عن سور وآيات ((تعمد)) الصحابة إسقاطها ورفعها من المصحف الذي جمعوه” ويفسر الشويقي هذا العمل الذي يبدو أنه يقره بأن الصحابة اعتبروا هذه الآيات “من القرآن المنسوخ الذي لا يجوز أن يبقى مثبتا في المصاحف.”. ثالثا، وحتى يبعد عن نفسه تهمة التمويه وبأنه اقتبس نصوصا للجابري دون الاشارة إلى أن الجابري كان يناقش فيها مرويات السلف، لم يجد ما يتمسك به سوى عنوان أحد مباحث الفصل محل النزاع. فساق حجته بأن عنوانا “قبيحا” – كما يصفه الشويقي- كعنوان “الزيادة والنقصان في القرآن” لا علاقة بينه وبين أقوال السلف تلك ومروياتهم. هذه هي حجة الشويقي التي برر بها عدم إيراده سياق ما نقله عن الجابري، أن عنوان المبحث “قبيح” ولا علاقة بينه وبين مقولات السلف “البريئة”. في الحقيقة، استغرب جدا مثل هذا التبرير. فالعنوان الذي تشدق به الشويقي إنما هو عنوان مبحث واحد فقط من بين خمسة مباحث تقع كلها تحت فصل هو الفصل التاسع، والمعنون بـ” جمع القرآن ومسألة الزيادة فيه والنقصان”. والشويقي يعلم ذلك جيدا، فعنوان هذا الفصل هو نفسه الذي اقتبسه في مقالته الأولى عن الضحيان، لكنه عوضا عن الاعتراف بخطئه كما هو مفترض، توجه إلى أحد عناوين الفصل الفرعية ليقول أن لا علاقة بينها وبين مقولات السلف، والتي يعترف هو أن هذه الأخيرة تدور كلها حول ” الكيفية التي تم بها جمع القرآن الكريم في مصحف واحد زمن الصحابة ”. فهو يعترف أن النصوص عن جمع القرآن، ويعلم أن عنوان الفصل يتحدث عن جمع القرآن، ولكنه يأبى إلا اللجوء لعنوان ثانوي! ولكن “التلفيق” طريقه قصير، خصوصا عندما يقتبس الشويقي نتيجة الجابري التي يقول فيها: “من الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه زمن عثمان…إلخ” والتي يؤكد أنها في (ص 232). فهذه النتيجة عندما اقتبسها الشويقي وصف الموضع الذي أقتبسه منها بوصفين: أولا بأنه “نهاية المبحث” وثانيا عندما قال “كما هو نص عبارته في خاتمة المبحث”. ولكن هذا الاقتباس، في الحقيقة، لا يقع في نهاية المبحث ولا في خاتمته، بل يقع بالضبط خارج المبحث الذي يقصده الشويقي، والذي كرر عنوانه “رابعا: الزيادة والنقصان في القرآن” أكثر من مرة. إن ذلك الاقتباس يقع في المبحث الذي يليه المعنون بـ”خامسا: خلاصات”، أي في نهاية الفصل كله، لا نهاية المبحث الذي تعلق بعنوانه هربا من عنوان الفصل كله. الآن، وبعد هذا كله، من هو بالضبط الذي اختار- وأنا هنا أقتبس كلمات الشويقي نفسه- “سلوكا غير لائق، بافتعال ضجيج وإثارة غبار يغطي به خطأه وغلطته، كي يتهيأ له الانسحاب مع الاحتفاظ بكبريائه وعزة نفسه”؟
المثير للانتباه، أن القضية الآن لم تعد قضية قول بالزيادة في القرآن، ولا قضية قول بالنقص، إذ أن الشويقي يقر بأن الصحابة “تعمدوا” إسقاط ورفع بعض السور والآيات أثناء عملية جمع القرآن. لم تعد القضية أيا من كل هذا، بل انحصرت فقط بتجويز الجابري حصول نقص غير متعمد أثناء عملية الجمع، انطلاقا من عدم عصمة الصحابة. كل ممسك الشويقي على الجابري هو هذه العبارة “وقد وقع تدارك بعض النقص”. والتي أصدر بناء عليها حكمه قائلا: “فسواء قال الجابري بحصول النقصان في كتاب الله، أو قال بجواز حصوله، فكلا القولين ضلال مبين، ومنازعة في ضروري من ضرورات الدين“. ولا ينتهي عجبي هنا من هذه الجرأة في تضليل الآخرين، وكأن الشويقي مندوب عن الله يوزع أحكام الضلال والاستقامة كيف يشاء! حسنا لنتسائل: هل فعلا أن تجويز حصول النقص في القرآن ضلال مبين؟
يقول مكي القيسي (ت437هـ) في “الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه”: “اعلم أنه جائز أن ينسخ الله –جل ذكره- جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده، ويرفع حكمه بغير عوض وقد جاءت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك)”. ثم يوضح مكي أن النسخ إنما يتعلق بـ”الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا” وأنها هذه فقط التي يجوز نسخها ببدل منها. أما باقي الآيات من أخبار الأمم الماضية والجنة والنار والحساب والعقاب..إلخ فـ”لا يجوز في ذلك كله أن ينسخ ببدل منه. فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور… فذلك جائز في قدرته تعالى…”. فإمكانية نقص القرآن واردة لأن الآية “لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك” ليست محددة بنطاق زمني بل هي مفتوحة. ومما يعضد هذه الإمكانية، بل ويؤكد حدوثها حديث “يسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية” وقول ابن مسعود “إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع”. وبعد، من أين للشويقي كل هذه الجرأة في أن يجعل تجويز نقص القرآن “ضلال مبين ومنازعة في ضروري من ضرورات الدين”؟